في وقت بدأ فيه المواطن يشعر بأن مشكلة التركيبة السكانية صارت مزمنة، وصار من الصعب، إن لم يكن من المستحيل حلها على المدى المنظور، بسبب تعقد هذه المشكلة، وتشعب نتائجها وتأثيراتها السلبية، لدرجة أصبح المواطن يخاف على لغته العربية، التي بدأت تختفي بشكل ملفت، ليس في الشارع والأماكن العامة والشركات، بل وحتى في المؤسسات الحكومية وبيوت المواطنين والعرب المقيمين! وفي وسط كل هذه الأوضاع التي تطرح عشرات التساؤلات دون أن تجد إجابة واحدة شافية، خرجت علينا لجنة التركيبة السكانية -التي تم تشكيلها بقرار من مجلس الوزراء في سبتمبر 2007- يوم الأحد الماضي لتعلن عن نتائج عملها وتطلع صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي (حفظه الله) على سير عملها وعلى النتائج التي توصلت إليها. إن إنشاء الهيئة الوطنية الدائمة التي أمر الشيخ محمد بن راشد بسرعة إيجادها لمتابعة هذا الملف المهم هو الخطوة الرئيسية في الوقت الحالي، فبعد أن قامت اللجنة الوزارية بتوضيح الصورة العامة للقضية ووضعت الخطوط العريضة لحلها صارت الحاجة إلى جهة تنفيذية تتابع تنفيذ الخطط والاستراتيجيات التي تم الاتفاق عليها للوصول إلى الأهداف المنشودة، وبالطبع مع ضرورة بقاء هذه اللجنة لمراقبة كيفية تنفيذ الحلول ومدى فاعليتها. هذا يعني أننا بصدد العيش في تركيبة سكانية جديدة، وقد لا تكون تركيبة معدلة مائة بالمائة ولا كما يريدها الكثيرون، لكنها بلا شك ستكون مختلفة عن التركيبة الحالية وستكون أفضل من الوضع الحالي وبالتالي يمكن اعتبارها أساساً لحل قضية التركيبة السكانية في المستقبل. من خلال عمل اللجنة من الواضح أنها توصلت إلى 66 مبادرة -حسب ما تم الإعلان عنه- وتهدف تلك المبادرات إلى تحسين مسألة التركيبة السكانية في قطاعات اختارتها اللجنة ورأت أنها مهمة ويجب البدء بها والانطلاق من خلالها... والجميع سينتظر بفارغ الصبر عرض تلك المبادرات على مجلس الوزراء لإبداء الرأي فيها واتخاذ الإجراءات العملية لنبدأ العد التنازلي لحل قضية التركيبة السكانية التي صار اليوم ليس المواطنون هم الذين يعانون منها بل حتى الأجانب صاروا مقتنعين بأن هناك وضعا غير طبيعي في البلد وبشكل أو بآخر فإن هذا الوضع يؤثر عليهم... وهذا الشعور طبيعي لأن أي إنسان عندما يكون في أي بلد يتوقع أن يكون أبناء البلد هم الأكثرية حتى تكون الأمور سليمة ومنطقية ومتوازنة ومستقرة. مهما كانت عناوين وتفاصيل تلك المبادرات الـ66 فإنها لن تكون مسؤولية الحكومة فقط، وإنما ستكون مسؤولية كل مواطن سواء كان كبيراً أو صغيراً، متعلماً أو غير متعلم، يعيش في المدينة أم في القرية، يتأثر مباشرة بخلل التركيبة السكانية أو لا يتأثر... إننا اليوم أمام مفترق طرق حقيقي وجاد بكل معاني الكلمة ويحتاج إلى جهد ومشاركة كل مواطن كما يتطلب مراقبة ومتابعة كل مسؤول في الدولة. مشاركة كل مواطن في خطة تعديل التركيبة السكانية أمر مهم جداً، سواء في البيت أو مكان العمل أو في المجتمع، فهذا عمل من أجل الأجيال القادمة، من أجل أبنائنا وبناتنا الذين يفترض أن ينعموا بالعيش في وطنهم كما نعمنا وأن يفخروا بوطنهم كما كنا وما زلنا نفتخر بأننا من وطن اهتم بالإنسان في كل تفاصيل حياته... لذا فمن المهم أن لا يذهب جهد وعمل هذه اللجنة دون أن نبدأ الخطوة الأولى في "التعديل" الذي طال انتظاره في وضع التركيبة السكانية في الإمارات، ففي بلد تتجاوز فيه نسبة المقيمين 80% من تعداد سكان البلد ولا يتجاوز المواطنون الـ20% فمن المهم جداً أن تكون هناك خطة تعديل سليمة ودقيقة ومدروسة بكل تفاصيلها حتى لا يكون هناك أي خلل في تنفيذ تلك الخطة وحتى لا نسيء بدون أن نقصد إلى أي من المقيمين بيننا، فتعديل التركيبة السكانية لا يعني بالضرورة الانتقاص من حقوق الآخرين... وفي المقابل يجب أن يدرك كل مقيم على أرض الإمارات أنه ضيف معزز مكرم وأن مبادرات تعديل التركيبة والحلول التي سيتم تنفيذها ليست موجهة ضد شخص أو جنسية أو مجموعة فأية عملية "تعديل" ستكون لها آثار جانبية قد لا تعجب البعض. أنا شخصياً أضع ثقتي الكاملة في هذه اللجنة التي تضم مجموعة من أبرز أبناء الإمارات المخلصين الذين لا نبالغ إذا قلنا أننا شعرنا أن هذا الملف في أيدٍ أمينة وأيدٍ ذات كفاءة ما دامت مع كل من الفريق سمو الشيخ سيف بن زايد آل نهيان وزير الداخلية وسمو الشيخ منصور بن زايد آل نهيان وزير شؤون الرئاسة وسمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية ومعالي محمد عبدالله القرقاوي وزير شؤون مجلس الوزراء ومعالي الدكتور أنور محمد قرقاش وزير الدولة للشؤون الخارجية... لقد انتقل هذا الملف على مدى سنوات من لجنة إلى أخرى وبلا شك أن كل لجنة وكل مجموعة استلمت هذا الملف قامت بالدور المطلوب منها وفق مقتضيات المرحلة ولم تتأخر في القيام بما هو مطلوب منها، أما اليوم فمن الواضح أننا صرنا في المرحلة الأكثر جدية وحساسية فيما يتعلق بمسألة التركيبة السكانية، وهذا ما يفسر تأكيد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد عندما قال بأنها تتصدر أولويات حكومته وعلى الجميع التعامل معها بجدية ومسؤولية قصوى. في كلمات بسيطة لخص الشيخ محمد بن راشد بعمق أهمية حل قضية التركيبة السكانية عندما قال: "إن مستقبلنا وهويتنا الوطنية مرتبطة ارتباطاً جذرياً ومصيرياً مع هذه القضية التي لابد لنا من تضافر كل الجهود والعمل كفريق واحد وتحديد الرؤية من أجل إيجاد آليات عملية يمكن من خلالها التوصل إلى تصور مقبول وواضح لهذه المسألة التي تحدد بالنهاية مستقبل أجيالنا القادمة".. واضح أن سموه مقتنع بأن حل هذه المشكلة لن يكون إلا بتضافر جهود كل قطاعات وفئات المجتمع ابتداء من المواطن الفرد مروراً بوسائل الإعلام الوطنية وجمعيات النفع العام الأهلية وانتهاء بمؤسسات الدولة الرسمية... فهذه القضية تحتاج إلى تضافر كل الجهود بمختلف المستويات وفي نفس الوقت حتى تكون النتائج بمستوى الطموح وكما هو مطلوب.. فهل نحن مستعدون "لتعديل التركيبة"؟ اعتقد أننا جميعاً مستعدون.. وإن كان البعض غير مستعد بعد فمن المهم قبل أن نبدأ خطة التعديل وخطواته أن نهيئ الأوضاع على جميع المستويات للمرحلة المقبلة وللتعديلات المطلوبة. لا شك أن العلاقة بين التركيبة السكانية والهوية الوطنية قوية ولا يمكن فصلهما عن بعضهما بعضا، وهي علاقة طردية فكلما صارت الهوية الوطنية راسخة أكثر كلما كان حل قضية التركيبة السكانية أسهل... والدراسة الأخرى وهي الأولى من نوعها التي تم الإعلان عنها يوم أول أمس حول "ترسيخ الهوية الوطنية" وغيرها من الدراسات المشابهة، سيكون لها دور كبير في قضية التركيبة السكانية التي يسعى الجميع إلى حلها والوصول بها إلى بر الأمان.