حاولت في المقالة السابقة تسليط الضوء على اللبس الشائع داخل الخطاب الديني، بين مفهومي العلم والدين، وأن هذا اللبس هو مصدر الاعتقاد بأن الدين في الإسلام هو العلم، وأن العلم هو الدين. هنا محاولة أخرى لشيء من التفصيل عن معالم هذا الالتباس. سبق أن تناولت الموضوع نفسه، لكن من زاوية مختلفة. أعود إليه مجدداً لأهميته، وخطورته، وما ينطوي عليه من متعة التفكير. كثيراً ما يفرض الموضوع نفسه في أحاديث المثقفين والمفكرين. من المرات القليلة التي وجد الموضوع طريقه للصحافة كان السجال الذي دار بين كاتبين سعوديين هما الدكتور توفيق السيف صاحب "نظرية السلطة في الفقه الشيعي"، والدكتور عبدالعزيز قاسم، المشرف على الملحق الديني في صحيفة "عكاظ"، وصاحب الحوارات المطولة، ويسميها "مكاشفات" مع عدد من الكتاب والمفكرين، سعوديين وغير سعوديين. بداية السجال ما ذكره قاسم من أن السيف يرى ضرورة الفصل بين الدين والعلم كشرط لتحقيق النهضة. وأجدني متفقا مع موقف السيف من فكرة الفصل هذه. مصادر الخلط بين الدين والعلم كثيرة، لكن ربما أن أهمها هو غموض دلالة مصطلحات ثلاثة هي المعلومة، والمعرفة، والعلم. المعلومة هي الملاحظة، أو الظاهرة، أو الحقيقة، أو الرقم، أو القيمة...الخ. المعرفة هي كل ما يدل على الاستعياب والإدراك، أو النظرة أو الموقف من الظاهرة والقيمة والحقيقة. بعبارة أخرى، المعرفة، هي التفسير انطلاقاً من المعلومة. لكن التفسير يحتاج إلى منهج. والعلم هو آخر وأحدث المناهج، أو طرق النظر والتفكير التي تستخدم المعلومة للوصول إلى المعرفة. الدين من هذه الزاوية هو أيضاً منهج وطريقة تفكير، ومصدر للمعرفة، لكنه منهج مختلف عن العلم. الفلسفة منهج آخر يختلف عن الدين وعن العلم. الإشكالية أن هذه التمايزات تختفي في الخطاب الديني بسبب تداخل تلك المفاهيم في هذا الخطاب. ترتب على ذلك اللبس أو التداخل التباسات أخرى. فموقف الإسلام من التفكير، والعقل، وتشجيعه على العلم، قاد البعض إلى الاستنتاج بأن الدين هو العلم في الإسلام. وهذا استنتاج غير منطقي لأن الموقف هنا، هو كذلك موقف ولا يعني التداخل وعدم التمايز بين الدين والعلم. موقف الإسلام الإيجابي من العقل ومن العلم ناتج من مركزية البعد الثقافي والحضاري في الإسلام، وأنه أوسع من أن يكون محصوراً في البعد الديني. كون الإسلام يحض على التفكير، وطلب العلم لا يعني البتة أن الدين في هذه الحالة علم، أو العكس. الدين كمفهوم نظري واحد رغم إختلاف تجلياته، واختلاف أدواره من إطار ثقافي لآخر، ومن مرحلة تاريخية لأخرى. وبالعودة إلى الالتباس الأول، يلاحظ عدم التمييز بين الدين كحقل معرفي مختلف من حيث الطبيعة والمنهج والعلم كحقل معرفي آخر مختلف تماماً من حيث المنطق الذي يستند إليه، والمنهج المستخدم فيه. في الدين الإسلامي مثلاً هناك ما يعرف بفقه العبادة، وفقه المعاملات. في الفقه الأول ليس هناك مجال للتفكير أو الاجتهاد غير الطاعة والتنفيذ. الاجتهاد محصور في الفقه الثاني، لكن بشرط ألا يتعارض مع الأصول والمبادئ التي يستند إليها الفقه الأول. وحتى في هذه الحالة هناك اختلافات كثيرة حول المدى المسموح به للاجتهاد في فقه المعاملات. مثل هذا التقسيم، وحدود الاجتهاد فيه، والاختلافات حوله أمر طبيعي، وجزء لا يتجزأ من الخطاب الديني. لكنه تقسيم غير موجود في العلم على الإطلاق. هناك تقسيمات منهجية وموضوعية في مجال العلم، لكنها جميعا لا تضع حدا على حرية الاجتهاد، والتفكير، والنقد، والبرهان. لأن هذه تمثل أهم وأخطر مرتكزات روح المنهج العلمي ومبرر وجوده. السلطة الوحيدة في العلم هي للعقل، والمرجعية المعرفية هي للمنهج العلمي. في هذا الإطار تبقى حرية التفكير، وحدود الاجتهاد مفتوحة. موضوع الدين هو الدنيا والآخرة معاً، أو الماضي والحاضر والمستقبل، بما في ذلك العالم الآخر. أما موضوع العلم فيقتصر بشكل حصري على الحياة الدنيا، وتحديدا كل ظاهرة أو موضوع قابل للملاحظة والقياس في هذه الحياة الدنيا. ماعدا ذلك لا يقع ضمن حدود المنهج العلمي. مثلاً مسألة الإسراء والمعراج هي مسألة محسومة من الناحية الدينية، وغير قابلة للشك. لكنها لا تقع ضمن حدود المنهج العلمي، وبالتالي غير خاضعة لحدود ومتطلبات هذا المنهج. لوجاء أحدهم وطرح ما يبدو له أنه سؤال علمي عن صحة ما حدث في الإسراء والمعراج يكون قد ارتكب خطأ علمياً فاضحاً، وتجاوز حدود الإيمان ومتطلباته. لا يملك المنهج العلمي إمكانية البرهنة من عدمها على ما حدث ليلة الإسراء والمعراج. والسبب في ذلك واضح، وهو أن هذا حدث غير قابل للملاحظة، وبالتالي لا يمكن توفر معلومات عنه قابلة للقياس والاختبار. بعبارة أخرى، الإسراء والمعراج مسألة خاضعة للإيمان، وليس للاختبار والبرهان. وليس أدل على ذلك من إجابة أبي بكر الصديق أهل مكة عندما قالوا له إن صاحبك (النبي ص) يدعي أنه أسري به البارحة إلى بيت المقدس، ثم عرج به في الليلة نفسها إلى السماء السابعة، ثم عاد من ليلته إلى مكة. كانوا ينتظرون استنكار أبي بكر وعدم تصديقه لما أخبر به محمد، لكنه فاجأهم بتصديقه للخبر لأنه قبل ذلك آمن بنبوة محمد. والإيمان بالنبوة هنا هو المرتكز. ما بعد ذلك أو دونه امتداد للإيمان الأول. الالتباس الرابع عدم إيلاء الأهمية المستحقة لحقيقة أن مصدر الدين إلهي غيبي، في حين أن مصدر العلم هو العقل البشري. في الوقت نفسه، وهذا هو مصدر الالتباس، يبقى العلم مع تميزه عن الدين، كمنهج وطريقة تفكير، ملكة منحها الله للإنسان كأحد مخلوقاته. موضوع العلم هو الطبيعة، وهذه من مخلوقات الله أيضاً. العلم هنا هو منهج لاكتشاف القوانين والنواميس التي تسير وفقا لها هذه الطبيعة. بعبارة أخرى، العقل البشري وقدرته على التفكير والتحليل، والطبيعة بأسرارها التي لا تنتهي، والعلم بمنهجيته المعنية باكتشاف كنه هذه الطبيعة، كل ذلك لا يتجاوز دائرة الإرادة الإلهية. كيف يمكن في هذه الحالة تفسير تناقض العلم مع الدين؟ هذا سؤال مهم ودقيق، لأنه يتعلق بالعلاقة بين حقلين مختلفين. هنا مجموعة ملاحظات لا غنى عنها أمام مثل هذا السؤال. لعله من الواضح أن التناقض في هذه الحالة هو تناقض في منهج، ومسلمات وفرضيات كل واحد من هذين الحقلين. الفرضية الأولى والمسلمة الأساسية في الدين هي الإيمان. في المقابل الفرضية الأولى والمسلمة الأساسية في العلم هي السؤال والبرهان. وبما أن الأمر كذلك، فإن التناقض هنا ليس بالضرورة تناقضا بين العلم كمنهج وما يرمي إليه من أهداف نهائية، من ناحية، وبين الدلالة الجوهرية والنهائية للدين كنص منزل. الأكيد، وأخذاً في الاعتبار ما أشرنا إليه من أن العقل، والمنهج العلمي كآلية اكتشفها العقل، والطبيعة كموضوع لهذا المنهج، من مخلوقات الله، وتعمل ضمن إرادة الله فإن التناقض بين العلم والدين في هذه الحالة ليس تناقضاً بين العلم والإرادة الإلهية. الأرجح أنه تناقض بين العلم والخطاب الديني. فيما يتعلق بموقف الخطاب الديني من هذا الموضوع تحديداً، يبدو أن هناك خلطاً بين الإرادة الإلهية من ناحية، وبين إرادة الإنسان التي تريد أن تخضع الدين كنص لقراءتها وحدود فهمها، من ناحية أخرى. وهذا ناتج طبيعي عن رفض الخطاب الديني لمبدأ التعددية والإختلاف كسنة من سنن الطبيعة البشرية، وبالتالي الطبيعة الاجتماعية. اللافت أن التناقض بين العلم والدين بالنسبة لأصحاب الخطاب الديني يعني شيئين متناقضين أيضاً: فهو من ناحية يعني أن العلم هو الذي يجانبه الصواب في حالة عدم إتفاقه مع الدين أو الوحي. وفي الوقت نفسه يصر أصحاب الخطاب الديني على تطابق العلم مع الدين. مما يعني أن التطابق في الخطاب الديني هنا لا يتضمن التماثل بين الاثنين في المنهج وطريقة التفكير والممارسة، ولا يتضمن وحدة الهدف فيما بينهما، وإنما يعني إخضاع منطق العلم ومنهجه لمنطق ومنهجية التفكير الديني. في هذه الحالة يصبح موقف الخطاب الديني من مسألة العلاقة بين العلم والدين هو موقف سياسي بامتياز، وليس موقفا علمياً. للحديث بقية.