تمر هذه الأيام الذكرى الخامسة لاحتلال العراق، الذي غير الكثير من أوضاع وعلاقات دول المنطقة مع الولايات المتحدة الأميركية ومع بعضها البعض، فأول الأمور أهميةً فشل النموذج العراقي لكي يكون نموذجاً ديمقراطياً حراً يعمل كمُحفز على التغيير في الأنظمة السياسية بالمنطقة، فالعراق وإنْ تخلص من النظام ''البعثي'' الاشتراكي، فإنه لم يستطع التخلص من حالات الانفلات الأمني والسياسي والاقتصادي، ولم يعد أحد يدري إلى أين يذهب نفطه، وعلى ذلك أصبحت خريطته تعبِّر عن انقسام فعلي بين المذهبية والقومية الكردية والعربية· وإذا كان النظام البائد استطاع بسط يده على ثروة العراق النفطية كعامل موحد للبلد، ها هو النفط في الجنوب والشمال يعمل على عكس ما كان عليه في عهد صدام· وإذا كان الجدل قائماً بشأن الهدف الحقيقي من احتلال العراق، هل هو أمن النفط العالمي أم إشاعة الديمقراطية في الشرق؟ فإن السؤال الأهم والمطروح هو متى يرحل الاحتلال، وهل يمكن تحديد آجال لذلك؟ الإجابة عن هذا السؤال تقودنا إلى تصريحات على لسان أكثر من مسؤول عراقي قبل ثلاث سنوات تقريباً عندما لم يترددوا في القول إن الاحتلال سيرحل عام ،2008 وبطبيعة الحال لم تكن هذه نبوءة ممن جاءوا على ظهر الدبابة الأميركية بقدر ما كانت استراتيجية الخروج الأميركية تقضي بأن عملية الاحتلال والانتقال إلى حالة الاستقرار عن طريق إعادة الإعمار وبناء الجيش وإدارة مدنية وإرساء الديمقراطية تستغرق خمس سنوات على الأقل· وهذا كله استناد إلى التجربة الأميركية في عمليات احتلال سابقة، لا سيما ألمانيا واليابان· ولا شك في أن هؤلاء المسؤولين العراقيين تكلموا بمهماز أميركي واضح، ونحن نذكر أن ''بول بريمر'' ذهب إلى العراق، وهو يحمل معه كتاباً عنوانه ''دور الولايات المتحدة في بناء الأمم، من ألمانيا إلى العراق'' واتخذه مرجعاً لحكمه العراق· ووفق هذه الدراسة الاستراتيجية المهمة، فقد كان ''احتلال ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية أُولى تجاربِ أميركا مع استخدام القوة العسكرية في أعقاب نزاعٍ للإسراع بإحداثِ تحوُّلٍ مجتمعي سريع وجوهري، وكانا مجهودين شاملين استهدفا إعادةَ بناءٍ اقتصادي وسياسي واجتماعي كبير، وتعتبرُ الحالتان معياراً لبناء الأمم، وهو المعيار الأكثر نجاحاً للتدخل الأميركي''· غير أن خاصية العراق والشرق الأوسط تجعل الأمر يختلف تماماً وتضع الاحتلال الأميركي أمام تجربة أخرى، فالجغرافيا السياسية ليست نفسها، والمجتمع ليس هو ذلك الذي تعاملت معه غداة سقوط ألمانيا واليابان، ناهيك عن أن الوضع العراقي الداخلي ليست به وحدة عراقية قوية مسيطرة بشكل كبير، والإدارة الأميركية لم تستطع تصور العراق بعد الاحتلال ولم تضع استراتيجية للخروج، بل ولا تستطيع فهم أبعاد خاصيته ولا المدى الذي سوف تؤثر به على المنطقة إذا ما طال التواجد الأميركي· فمن الناحية الجيوسياسية للمنطقة نجد أن المشروع الأميركي يشكل أصلاً هاجساً لمعظم دول الشرق الأوسط، وذلك من منطلق التجربة التاريخية مع الاحتلال، الذي رسم حدود المنطقة وزرع إسرائيل فيها، وبالتالي فإن رفض التدخل الخارجي هو الرد المنطقي استناداً إلى خاصية شعوب المنطقة، لاسيما أنظمتها التي لا تريد مثل هذا التغيير، ومن ثم فإن عدم استقرار العراق في اليد الأميركية يجعل المنطقة لا تثق في هذا النموذج الموعود للشرق· وأمام هذا المشروع الأميركي، نستطيع أن نفسر موقف سوريا وتحركاتها في لبنان الذي ازداد إصراراً على الخروج من الوصاية السورية عندما تواجدت الولايات المتحدة في العراق، وأخذ تأثير إيران وسوريا يتضح في بلاد الرافدين من خلال المقاومة التي تجد دعماً من هاتين الدولتين· وإذا كانت سوريا تتوجس من واشنطن وإسرائيل، فإن إيران أخذت بطموحها النووي وحضورها العقائدي بالعراق وغيره من دول المنطقة قاعدة أساسية للشد والجذب مع الغرب عموماً وخاصةً في ظل توافر علاقات جيدة مع دول كبرى ومهمة كروسيا والصين، وكأن طهران وجدت الفرصة للنيل من الثور الأميركي بتشتيت جهوده ومحاربته في غير أرضها· ورغم هذا التصور السوري الذي تشاركها فيه إيران وبعض الدول، والذي يعبر عن الخوف من طول عمر الاحتلال وازدواجية الأهداف الأميركية، فإن واشنطن لم تتراجع عن مشروعها الديمقراطي، وكان ذلك واضحاً في الحرب بين إسرائيل و''حزب الله'' التي اعتبرتها وزيرة الخارجية الأميركية مخاضاً لولادة شرق أوسط جديد، ولكن ما خفف من هذا الهاجس هو دخول أطراف أخرى كونت ما يسمى بمحور ''الدول المعتدلة'' مقابل ''دول الممانعة''، وهذا في إطار سياسة تقاسم الأعباء بين الولايات المتحدة ودول إقليمية في سبيل استقرار المنطقة· أجل لقد كان الاحتلال الأميركي للعراق القاعدة الأساسية للكشف عن هذا الشرق بصراعاته واضطراباته لأن أميركا دولة كبرى أصبحت متواجدة في المنطقة بشكل مباشر رغم أنها كانت موجودة من قبل في القواعد العسكرية لأمن المنطقة· وإذا كان تأثير العراق قد طال إيرانَ وسوريا ولبنانَ، فقد حرك أيضاً المذهبية في المنطقة، فدخلت حلقات الصراع، وأصبحت حديث الشارع السياسي في الشرق· والعراق أيضاً، عبر شماله، حرّك تركيا ومعضلة أمنها مع الأكراد بصورة كبيرة، فبروز الأكراد في كردستان العراق حرّك وحفز قوميات أخرى في إيران وباكستان· لقد أصبحت للولايات المتحدة إقليمياً حلقات من التعاون وحلقات أخرى من الصراع مع الدول وغير الدول إلى جانب أطر أخرى تتأرجح فيها بين الصراع والتعاون مع دول مهمة كتركيا وباكستان· هذا السياق تحاول واشنطن من خلاله إثبات سياساتها واستقرار المنطقة من خلال القضية الفلسطينية والسلام في الشرق الأوسط، وكأن العراق فتح على الولايات المتحدة أبواباً أخرى في لبنان، والاتجاه للصراع والتفاوض مع إيران في حلقات متشعبة، والاختلاف مع تركيا والتوجه أيضاً للصراع والتعاون مع فاعلين غير دوليين كـ''فتح'' و''حماس'' والأكراد والحرس الثوري الإيراني و''القاعدة''، فجميع اللقاءات والمؤتمرات التي تتم للعراق ولبنان والقضية الفلسطينية والتي تترأسها أو تدعو إليها واشنطن تُشعِر المتابع بأن العراق يعني الكثير للمنطقة، فلن يكون كحلقة تستقر بعيداً عن الصراعات المختلفة والمتعددة بالشرق، فالولايات المتحدة لا تقف أمام دول المنطقة فقط ، بل أمام موسكو أيضاً التي لا ترغب في نجاح السياسات الأميركية في المنطقة، وهي في صراع مع الغرب عموماً وترغب في عودة الثقل الروسي العالمي وأحد أشكال هذا الصراع ما يحدث في الشرق· يمكن أن تكون القوة العسكرية مدخلاً للتحول الديمقراطي ناجحاً في بعض الدول لما تحمل من خصوصية داخلية وإقليمية، إلا أن مدة الخمس سنوات أطلت على الولايات المتحدة وما زالت تتمرغ في الوحل العراقي، وما زالت حلقات الصراع تتوسع في المنطقة، وهو ما يؤكد خاصية العراق المختلفة عن باقي عمليات الاحتلال السابقة، فهو يتميز بمذاهبهِ وقومياتهِ وتاريخهِ وإقليمهِ، ويُعبِّر بكل ما تحمل هذه الكلمات من دلالة عن كونه بوابة الشرق التي أفرز حطامها الكثير على الساحة الإقليمية والدولية، فلم تصبح هذه السنوات الخمس تاريخاً لأنها ما زالت مستمرة، بل أصبحت بداية لبروز فاعلين دوليين وغير دوليين وسياسات إقليمية ودولية متضاربة لدرجة الصدام، كما فتحت هذه السنوات كف أيدي الشرق الأوسط ليؤكد للمراقبين والسياسيين والأكاديميين أن دراسة وفهم هذه المنطقة من العالم تأتي من خلال العراق الذي يعد أحد بوابات الشرق المهمة عقائدياً وسياسياً وأمنياً واقتصادياً· وأخيراً، إذا أخذنا معيارين فقط من المعايير التي أوردتها الدراسة الاستراتيجية السابق ذكرها، وهما عدد القتلى المدنيين بعد النزاع واللاجئون والمهجرون داخلياً، نجد أن الفشل هو سمة المشروع الأميركي في العراق، والدرس الذي خرجت به هو أن طول مدة الاحتلال لا يضمن النجاح والخروج المبكِّر يضمن الفشل·