عرضنا في المقال السابق لدرجات ''المعرفة بالواقع'' كما شرحها أفلاطون، والسؤال الآن: إلى أي حد يمكن تطبيق تلك الدرجات على حالنا نحن عرب القرن الحادي والعشرين؟ من السهل أن نقول إن ''العامة'' تراه كشبح الشجرة على الماء أو كظلال داخل كهف الجهل، بينما تراه ''الخاصة'' أو ''النخبة'' كما يرى الإنسان الأشياء التي تنطبع على عدسة بصره أو التي يتبينها وهو خارج من الكهف··· الخ، غير أن المسألة ليست في التمييز بين مستويات الرائين، بل هي في تبيان ''حقيقة'' ما يرون! لذلك سنتجه بالسؤال لأفلاطون من جديد: ما قولك في مدن ''الواقع السياسي'' اليوناني الملموس، وأنت الفيلسوف الذي ترى الأشياء في واضحة النهار؟ يجيب أفلاطون: إن ''أنواع المدن'' أو ''الرئاسات'' -لنقل أشكال ''الواقع السياسي'' اليوناني في عصره- خمسة، تتعاقب كما يلي: رئاسة الأرستقراطية التي تفسد مع الوقت، حتى إذا تفسخت قامت مقامها التيموقراطية وهي الرئاسة العسكرية التي يطلب أصحابها المجد والتوسع العسكري، ثم يصيبها الفساد، حتى إذا انحلت قامت مقامها رئاسة الأوليغارشية أي حكومة الأقلية من الأغنياء· وبانحلال الأوليغارشية تقوم الديمقراطية وتعني ''حكم الشعب نفسه بنفسه''، لأن الرئاسة فيها جماعية، فهي ''مدينة الحرية''، ويكون السؤدد فيها لذوي النسب والحسب· وبفساد هذه الرئاسة تعم الفوضى ويكون المآل قيام الحكم الاستبدادي أو الطغيان· وعندما ينحل حكم الطغيان تعود الرئاسة لـ''الأخيار'' أي الأرستقراطية وتتجدد الدورة هكذا دواليك· أما ''المدينة الفاضلة'' التي لم توجد بعد، فلابد، في نظر أفلاطون، من إعدادها بالتربية والتعليم وتكوين الجند، ولابد أن يكون على رأسها من يبلغ من المُكوَّنين قمة الحكمة والمعرفة أي الفيلسوف· ذلك لأنه هو وحده الخارج من الكهف، وحده المتعود على النظر إلى الشمس، وحده يعرف الحقيقة ويقدر على رؤيتها وتحملها··! وإذا سألناه: هل يمكن فعلاً وجود مثل هذه المدينة في هذا العالم الذي يندر فيه الفلاسفة، وإذا وجدوا حاربهم الناس فلا يثق فيهم أولئك الذين كانت لهم الرئاسة من قبل، ولا من هم في معناهم من أصحاب المصالح الطموحين؟ أجاب: الواقع أن مكان المدينة الفاضلة، في الحقيقة، لابد أن يكون خارج هذا العالم! هل نقبل بهذا، نحن العرب الذين نبحث عن مدينة فاضلة خاصة بنا، بعد الخيبات التي عشناها في تاريخنا القديم والحديث؟ أعتقد أن الانتقال من أفلاطون إلى واقعنا السياسي الراهن ينطوي على خطأ طالما درجنا على ارتكابه، أعني بذلك تجاهل رأي فلاسفتنا ومفكرينا الذين عرفوا قبلنا أفلاطون وغيره من فلاسفة اليونان وأبدوا رأيهم فيما طرحوه من قضايا آخذين بعين الاعتبار معطيات الحضارة التي نشأوا فيها وعاشوا قيودها وتطلعاتها، الحضارة العربية الإسلامية··· لنعرج إذن على الفلاسفة العرب لنسألهم كيف قرؤوا ''الواقع السياسي العربي'' في عصرهم على ضوء قراءتهم لآراء أفلاطون في الموضوع! كان الفارابي أول من عرض نظرية أفلاطون في المدن والسياسات، لا كمترجم، بل عرضها عرْضَ ''تناص'': يفكر من خلالها وبواسطتها في الواقع السياسي في عصره، وأحياناً بفعل العكس· والمشكلة التي كانت تعترض علاقته بأفلاطون هي أن هذا الأخير تحدث عن ''المدن'' بوصفها ''حَيِّز'' الواقع السياسي في عصره، بينما ''الحيز'' الذي كان يتأطر فيه الواقع السياسي الذي عاش فيه الفارابي كان ''الإمبراطورية''· نعم، عاش الفارابي مدة طويلة في كنَف ''مدينة سيف الدولة الحمداني''، ومع أن إمارة هذا الأخير كانت فعلاً بـ''المدينة'' أشبه، فإنها مع ذلك كانت واقعة تحت خيمة الإمبراطورية، خيمة الخلافة العباسية· ولذلك فعندما فكر الفارابي في ''المدينة الفاضلة'' وفي الرئيس المنشئ لها، والذي إليه يجب أن يؤول أمرها، لم يحصر رئاستها في الفيلسوف وحده، كما فعل أفلاطون، بل أضاف إليه النبي· ولذلك جعل لـ''آراء أهل المدينة الفاضلة'' مصدرين: إما ''شمس الفلسفة''، التي يتعود الإنسان الخارج من الكهف الاتصال بها عن طريق الترقي بعقله بدراسة المنطق والفلسفة وبالتالي الحصول على حقائق الأشياء من ''العقل الأول'' مسبب الأسباب كلها··· الخ، وإما ''مشكاة النبوة'' أي الوحي الذي يختص بتلقيه عن نفس المصدر، الذي يتلقى منه الفيلسوف الحقائق، مَن كانت له على الفطرة مخيّلة قوية مُعَدَّةٌ لذلك، وهو النبي· هكذا يرجع الفارابي بالفلسفة والدين إلى أصل واحد، فيقيم إلى جانب مدينة الفلسفة التي تعطي حقائق الأشياء بالبرهان، مدينةَ الوحي التي يسميها ''المِلَّة الفاضلة'' التي تعطي ''مثالات الأشياء'' عن طريق البيان· ومع أن الفارابي يسكت عما صرح به أفلاطون في نهاية كتابه الجمهورية من أن المدينة الفاضلة التي يرأسها فيلسوف لا يمكن أن تنشأ في الواقع السياسي على أرض البشر، بل مكانُها في عالم المثل (عالم التصور للأفضل والأمثل)، فإنه -أعني الفارابي- يصرح بوضوح أن ''الملة الفاضلة'' قابلة للنشوء وسط الاجتماع البشري إذا ظهر فيه نبي، وسار خلفاؤه على سيرته، مع قيام هؤلاء بإدخال تغييرات فيما أقره رئيسهم الأول، إذا تغيرت الظروف، متبعين سننه، فاعلين ما كان لابد أن يفعله هو من التغيير لو وُجٍد في وقت يحتاج إلى التغيير· أما المدن المضادة للمدينة الفاضلة التي ذكرها أفلاطون فقد اهتم بها الفارابي وذكر في شأنها ما ذكره أفلاطون، ولكنه لم يتحدث عما يماثلها ويشبهها في الحضارة العربية الإسلامية· وقد شعر الفارابي بهذه الثغرة في مشروعه فوعد باستدراك هذا النقص فيما أسماه ''الزيادات''، قال: ''وها هنا كان ينبغي أن تذكر مثالات هذه ''الظنون التي حدثت عنها الآراء الضالة، فتؤخذ عن الملل الجاهلية والضالة الموجودة اليوم في الأمم؛ ولكن رأينا أن نرجئها إلى الزيادات''· لكن هذه ''الزيادات'' لم تصلنا، والغالب أنه لم يكتبها، فقد وعد بها في أواخر عمره· لكن، هل كان الفارابي يستطيع الكلام عنها، أعني عن ''المدن الضالة'' في عصره؟ لا أظن، ودليلي على ذلك أن الذين بإمكانهم أن يتكلموا عن ''المدن الضالة'' -ولنقل عن ''الرئاسات الضالة''- في الواقع السياسي العربي الراهن، هم إما في كهف السجون، وإما في كهف ''القفص الذهبي'' بأوروبا وأميركا، وإما في كهوف جبال شرق أفغانستان! ومن سوء حظ الفارابي أنه لم يكن أمامه سوى ''السجن'' أو ''قطع الرقبة''، وهما سيان! الحقيقة ثورية في كل زمان! والثورة ''تهب هبّاً'' في أزمان معدودة، وليس في كل زمان· جاء بعد الفارابي ابن سينا! لكن ''الشيخ الرئيس'' لم يهتم بالواقع السياسي من خارجه، لأنه كان ''عضواً'' فيه، وبالتالي غارقاً في كهفه: كان من علية القوم· كان وزيراً، والوزير، راهناً أو سابقاً، يحمل معه عادةً وزرَ الوزارة· فإذا هو أقيل جلس ينتظر أن يُستدعى لمنصب الوزير مرة أخرى، ينتظر·· وينتظر·· ينسى نفسه وينسى أصله، يستعيد ماضيه كوزير: سابقاً؛ ويجتر أحلامه: كوزير لاحقاً! وإذا طال عليه ''الوقت'' اعتاد ''طول الوقت''، وابتكر لنفسه كيفيات لتمضية الوقت· فما أثقل الوقت على من كان، ولم يعد··· وزيراً! ربما كان ابن سينا من هذا الصنف، فهو لم يكتب عن ''مدن الدنيا'' وإنما كتب عن ''مدن الآخرة''· كان رأيه أن الإنسان هو نفسه، أما جسمه فمن تراب وسيعود إلى التراب· نفسه وحدها هي الخالدة! هي تعود بعد الموت إلى ''المكان الأرفع'' الذي منه ''نزلت''، وهناك تنضم إلى ''مدن السعادة العقلية'' لتنال منها بمقدار تحررها من ''الانشغال بالبدن'' يوم كانت في الحياة الدنيا· وهكذا: فالدرجة الأولى من السعادة للنفوس التي كانت في الدنيا عالمة فاضلة (غير منشغلة بالبدن)· والدرجة الثانية للنفوس التي كانت في الدنيا عالمة ولكن غير فاضلة· والدرجة الثالثة للنفوس التي لم تستكمل في الدنيا العلم التام ولا الفضيلة التامة· والدرجة الرابعة للنفوس السليمة أي التي بقيت في الدنيا على الفطرة ولم ''تتدنس بالعقائد غير الفاضلة''· أما الدرجة الخامسة والأخيرة فهي لـ''نفوس البله من الناس''، التالي لم تشتق في الدنيا لا للعلم ولا للفضيلة، فهذه ''تعذب عذاباً شديداً بمفارقة البدن ومقتضيات البدن''·