ثاباتيرو... عودة "الاشتراكي الهادئ" مطوقاً بالتحديات!


حكومة جديدة في إسبانيا بقيادة رئيس الحكومة السابقة، وهو أمر قل حدوثه في التاريخ الإسباني المعاصر، لكن "خوسيه لويس ثاباتيرو" فاز بولاية ثانية، وشكل حكومة نسائية لا غبار عليها! فيوم السبت الماضي أعلن ثاباتيرو تشكيلة حكومته المكونة من ثمانية وزراء وتسع وزيرات بينهن "كامي شاكون" التي تولت وزارة الدفاع كأول سيدة في تاريخ إسبانيا، بينما احتفظ وزراء الداخلية والخارجية والاقتصاد بحقائبهم في الحكومة الجديدة.

وكان ثاباتيرو قد فاز بثقة البرلمان في الجولة الثانية من التصويت، يوم الجمعة، بحصوله على أصوات 169 نائباً فيما عارضه 158 وامتنع 23 عن التصويت. بعد ذلك أدى اليمين القانونية أمام الملك خوان كارلوس، متقلداً رئاسة الوزراء لفترة ثانية مدتها أربع سنوات. وتلك ثاني زيارة يؤديها ثاباتيرو للملك منذ يوم 14 يناير الماضي حين طلب توقيعه على مرسوم كان رئيس الوزراء قد أصدره في حينه ويقضي بحل البرلمان والدعوة لانتخابات عامة. وبالطبع فقد أعطى الملك موافقته، وجرت الانتخابات يوم 9 مارس المنصرم، حيث حصل "حزب العمال الاشتراكي الإسباني" بزعامة ثاباتيرو على 169 مقعداً في مجلس النواب الذي يضم 350 نائباً، أي أقل من الأغلبية المطلقة بسبعة مقاعد، لكن بزيادة خمسة مقاعد على نتائجه في انتخابات 2004. في ذلك العام استطاع ثاباتيرو الصعود بحزبه وإسقاط حكومة رئيس الوزراء "خوسيه ماريا أزنار"، منهياً ثماني سنوات من حكم المحافظين، وليصبح هو نفسه ثاني رئيس وزراء اشتراكي في إسبانيا منذ سقوط ديكتاتورية فرانسيس فرانكو عام 1975. وقد جاء فوز العماليين في جانب منه، كعقاب من طرف الناخبين الإسبان لحكومة "الحزب الشعبي" التي رأوا في تحالفها مع واشنطن ولندن سبباً لتفجيرات مدريد الدامية، كما عارضوا إرسال قوات إسبانية إلى العراق. وهو موقف أفاد منه ثاباتيرو الذي أعلن في أول تصريح له بعد فوزه بالانتخابات العامة، عزمه على سحب القوات الإسبانية (1300 جندي) من العراق، مكرراً تعهده الانتخابي، وقائلاً إن مشاركة بلاده في حرب العراق كانت "خطأ فادحاً منذ البداية".

وثاباتيرو هو أحد رموز اليسار المعارض لسياسات القطب الواحد الأميركي، وقد رفض أداء التحية لعلم بلاده ذات مرة؛ لأنه كان يجاور العلم الأميركي وأعلام الدول المشاركة في احتلال العراق، وقال عقب ذلك إنه "ما كان يجب أن يكون علم إسبانيا إلى جوار علم دولة تحتقر الشرعية الدولية وتحتل دولة ذات سيادة".

ويعرف عن ثاباتيرو إيمانه بالوحدة الأوروبية، خلافاً لسلفه "أزنار" الذي خلق انحيازه لمحور بوش- بلير انشقاقاً عميقاً داخل الاتحاد الأوروبي. أما ثاباتيرو فعمل، لاسيما خلال وجود الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك والمستشار الألماني غيرهارد شرودر، على تعزيز المحور الفرنسي -الألماني، وقد حاول إشراك إسبانيا بصفة مكثفة في السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، ودعا إلى إقرار دستور الاتحاد، بعد أن عرقلت حكومة أزنار هذه العملية أكثر من مرة.

وظهر ثاباتيرو على الساحة السياسية في إسبانيا لأول مرة في يوليو 2000، حين تم انتخابه أميناً عاماً لـ"الحزب العمالي الاشتراكي"، وذلك اثر صراع داخلي عويص بقيت بعض آثاره تلاحق الحزب. واستطاع أن يمكن للتيار التحديثي (الطريق الجديد) في الحزب، والذي حقق شعبية متزايدة تحت قيادته، كما يظهر من الخط التصاعدي لحظوظه في الانتخابات المحلية عام 2003، ثم الانتخابات العامة في العام التالي، وبعدها الانتخابات المحلية لعام 2007، ثم الانتخابات التشريعية الأخيرة... مما يعني أنه "سياسي محنك" فرض الوحدة على الأجنحة المتصارعة داخل الحزب. فهذا "الاشتراكي الهادئ"، كما تلقبه الصحافة الإسبانية، يتحدر من عائلة يسارية بامتياز، وهو حفيدُ جمهوريٍ أعدمه فرانكو خلال الحرب الأهلية عام 1936. أما هو فولد عام 1960 في مدينة "فالادوليد" (عاصمة إقليم بنفس الاسم) في الشمال الإسباني، حيث تلقى تعليمه في مدارس دينية، ثم التحق بكلية القانون في جامعة مدينة "ليون" في الإقليم نفسه، مترسماً خطى والده الذي كان عميداً لكلية المحاماة في جامعة "فالادوليد". وبعد تخرجه عام 1983، عين معيداً في كليته، لكنه توقف عن التدريس عام 1986 حين انتخب نائباً عمالياً في البرلمان عن دائرة "ليون". وقد انضم ثاباتيرو، وهو سليل عائلة يسارية عريقة، إلى "الحزب العمالي الاشتراكي" عام 1979، عندما كان الحزب حاكماً وموحداً بزعامة "فيليب غونزاليس"، وتدرج في المواقع الحزبية إلى أن أصبح الخلفية الثاني لغونزاليس في رئاسة حزب لطخته فضائح الفساد ونسبة البطالة المرتفعة خلال 15 عاماً في السلطة.

وإذا كان ثاباتيرو يباهي بما حققه من مكاسب وإنجازات على الصعيد الاقتصادي، وبإصلاحاته الاجتماعية، وبكونه أعطى مزيداً من الحكم الذاتي لأقاليم مثل "كاتالونيا"... خلال ولايته الأولى، فثمة انتقادات لسياسته في السنوات الأخيرة، وهو يواجه تحديات كبيرة خلال ولايته الثانية. وكما يقول خصومه اليمينيون، فإنه لم يستطع المحافظة على كثير من المكاسب الاقتصادية المتحققة خلال حكمهم، حيث تراجعت معدلات النمو الاقتصادي من 3.8% إلى 1.8%، وزاد عدد العاطلين عن العمل بـ800 ألف شخص... وهم يعزون ذلك أساساً إلى فشله في الحد من الهجرة القادمة والتي تضر بفرص الإسبان في العمل والتعليم والإسكان. كما أخفق في التعاطي مع حركة "إيتا" الباسكية، والتي قررت وقف عملياتها عام 2006، لكن بسبب فشل الحكومة في التجاوب مع مطالبها قررت استئناف أعمالها المسلحة!

وفي المجال الخارجي تعرضت طروحات ثاباتيرو لضربة موجعة بسبب تغير الزعامة في كل من فرنسا وألمانيا، مما أدى إلى تبدل عميق في سياسات محور باريس- برلين. وبشكل عام فإن تلك المصاعب هي ما يفسر حقيقة كون ثاباتيرو أصبح أول سياسي إسباني يضطر لخوض جولة انتخابات ثانية في البرلمان منذ 33 عاماً... فماذا عسى "الاشتراكي الهادئ" فاعلاً في خضم التحديات العويصة التي تواجهه؟





محمد ولد المنى