كل المؤشرات تنبئ بتحفز الولايات المتحدة لنهوض جديد؛ فعلى الرغم من طيش التنبؤ من الآن بمن يكون الفائز في انتخابات نوفمبر الرئاسية، فإن موجة عامة من الحماس والرغبة في التغيير السياسي، تكاد تعم الولايات المتحدة بأسرها. وقد أشارت آخر استطلاعات الرأي العام التي أجريت، إلى اعتقاد نسبة 75 % من الأميركيين بأن البلاد تمضي في الطريق الخطأ. وفي هذا الاعتقاد بحد ذاته إدانة قاسية للرئيس الحالي جورج بوش، الذي يشيع الحكم عليه باعتباره أسوأ رئيس في التاريخ الأميركي المعاصر. إلا أن فيه إدانة بالقدر نفسه للحزب "الجمهوري"، الذي لم يعد قادراً على مواصلة صعوده السابق في السياسات الأميركية. وبالنتيجة فلم يعد لـ"الجمهوريين" ذلك النفوذ الذي كان لهم من قبل، سواء في دوائر المصالح الاستثمارية، أو من زاوية النفوذ السابق لـ"المحافظين الجدد" أو الدينيين منهم. وقد بدأ هذا العد التنازلي للحزب "الجمهوري" منذ الانتخابات النصفية التي أجريت في عام 2006. ولا ريب أن تغيير القيادة الأميركية ستكون له أصداؤه في شتى أنحاء العالم، لا سيما في الشرق الأوسط، حيث أغرق الرئيس بوش بلاده في حربين مكلفتين لا سبيل للفوز بهما، في كل من أفغانستان والعراق، إضافة إلى إقحام بلاده في مواجهة جد خطيرة مع العالم الإسلامي. وعليه فإن انتشال الولايات المتحدة من هذا المأزق سوف يكون الأولوية القصوى للرئيس الأميركي القادم. والملاحظ على انتخابات الرئاسة الأميركية، بروز اتجاهين رئيسيين فيها، أولهما المال، الذي يؤدي دوراً كبيراً في الحملات الانتخابية. وكما هو معروف فإن للمانحين والمتبرعين للحملات الانتخابية، نفوذهم دون أدنى شك. ومتى ما فاضت الأموال بيد أحد المرشحين، فإنه سيكون بوسعه التفوق على منافسيه من ناحية الإنفاق على الإعلانات التلفزيونية، وهي ميزة كبيرة لأي مرشح في بلد يدمن أهله مشاهدة التلفزيون. وفي هذا يلاحظ كسر الحملة الانتخابية الرئاسية الحالية للقاعدة العامة التي درجت عليها الحملات السابقة. والمعني بهذا أن مصادر التمويل الانتخابي لم تعد بيد "الجمهوريين" -الذين كانت لهم اليد العليا فيها تقليدياً-. والمعروف أن هناك مجموعات مصالح صغيرة ومحدودة الحجم نسبياً، مثل مجموعة اليهود الأميركيين، عُرفت بتأثيرها الكبير على الحملات الانتخابية لكلا المرشحين "الجمهوريين" و"الديمقراطيين"، بسبب تبرعاتها السخية لميزانيات تلك الحملات. أما هذه المرة، فقد تمكن المرشح الرئاسي "الديمقراطي" باراك أوباما، من جمع موارد مالية ضخمة لحملته عبر شبكة الإنترنت، عن طريق تبرع مئات الآلاف لصالح حملته بمبالغ مالية صغيرة، تقل عن 100 دولار في كثير من الأحيان. وهكذا أحدثت شبكة الإنترنت ثورة في طريقة تمويل الانتخابات الأميركية. ولا تقل أهمية عن هذه، أنها حررت أوباما من الاعتماد على كبار المانحين مثلما هي العادة سابقاً. وقد أثارت هذه التحولات حفيظة مجموعات الضغط اليهودية، التي طالما نظرت إلى أوباما باعتباره "مسلماً متخفياً" لا يبدي من الدعم ومشاعر التعاطف ما يكفي نحو إسرائيل. وفي المقابل منح "المحافظون الجدد" الموالون لإسرائيل، دعماً هائلاً للمرشح "الجمهوري" جون ماكين، باعتباره منقذهم الوحيد من هذه العاصفة السياسية المتجهة صوب أميركا. أما الاتجاه الثاني البارز في الحملة، فله علاقة كبيرة بالأيديولوجيا. فلم يعد الجمهور "يبتلع" آراء الرئيس بوش، خاصة تلك المتعلقة منها بسياساته الخارجية، ونزعته العسكرية، وحروبه الاستباقية. واليوم ترى نسبة تزيد على 60 في المئة من الأميركيين أن سياسات بوش الخارجية أضعفت بلادهم داخلياً وقعدت بدورها العالمي. فهل يعني كل هذا أن "الديمقراطيين" على ثقة من وصولهم إلى سدة الحكم في البيت الأبيض؟ والإجابة: من المؤكد أنهم سوف يبسطون نفوذهم على مجلسي النواب والشيوخ في الكونجرس بأغلبية كبيرة. أما وصولهم إلى البيت الأبيض، فهذا أمر مختلف ويصعب جداً التكهن به في الوقت الحالي. والمعلوم أن فرص هيلاري كلينتون قد تضاءلت كثيراً في أن تكون مرشحة الحزب "الديمقراطي"، بسبب التفوق الكبير الذي حققه عليها منافسها باراك أوباما. ثم إنها تواجه مشاعر معادية لها من قبل الناخبين الذكور، وكذلك من قبل ناخبي الريف. وفيما يبدو، فإن الأميركيين أكثر استعداداً لمنح أصواتهم لمرشح أميركي- أفريقي بدلاً من أن يمنحوها لامرأة. ولهذا السبب، فإن المرجح أن يترشح "أوباما" لخوض المعركة الانتخابية الفاصلة عن حزبه "الديمقراطي". ولكن هل يستطيع انتزاع النصر في تلك المعركة ضد منافسه "الجمهوري" جون ماكين؟ لا شيء مؤكدا هنا البتة، لكن على أوباما إزالة عقبتين كؤودتين تعترضان طريقه إلى النصر هما: عرقه وأصوله الأفريقية، ومدى قبول رؤيته للمسائل المتعلقة بالأمن القومي. والمعروف عن أوباما حتى الآن، أنه يحظى بتأييد شعبي واسع في أوساط الناخبين الشباب. إلا أن كبار الناخبين، وذوي الياقات الزرقاء من العاملين، يفضلون عليه المرشح "الجمهوري" جون ماكين. وربما تتسم خطابية أوباما الانتخابية بكثير من الفصاحة والبلاغة والتفلسف، إلا أن جميع هذه الصفات ربما تبدو ضعفاً في الرسالة التواصلية في مناطق الوسط الأميركي، التي ربما تفهم أفضل منها لغة "ماكين" البسيطة السهلة المباشرة. وفي حين لا يستبعد اعتقاد الكثير من الناخبين أن أوباما أصغر سناً من أن يتولى المنصب الرئاسي، فإنه لا يستبعد بالقدر نفسه، اعتقاد الكثيرين أن جون ماكين "عجوز جداً" على الرئاسة، طالما أنه تعدى سن السبعين بعام واحد. ومن باب المقارنة أيضاً يبدو أوباما ضعيف الخبرة في مسائل الأمن القومي، على نقيض جون ماكين، الذي يعد أحد قدامى المحاربين وأبطال الحرب. ولهذا الفارق، وفيما لو وقعت هجمات إرهابية جديدة قبيل الانتخابات على الولايات المتحدة الأميركية، فإنها لا شك ستكون من صالح جون ماكين. لكن ولكي يفوز ماكين بالمنصب الرئاسي، فإن عليه أن يخوض هذه الانتخابات ضد حزبه، الذي أغضبت سياساته غالبية الأميركيين ومست حياتهم سلباً في كل شيء تقريباً. وعلى الجانب "الديمقراطي"، لا تزال فرص الفوز كبيرة جداً أمام باراك أوباما، غير أن الوقت لا يزال مبكراً جداً لاستبعاد فرص منافسه جون ماكين في الوصول إلى البيت الأبيض.