لا يكاد مسؤول أميركيٌّ كبيرٌ يُنهي جولةً في الشرق الأوسط والخليج، حتى يبدأ مسؤولٌ آخَر جولةً أخرى. وفي حين تميل كوندوليزا رايس لقصْر حركتها على إسرائيل وفلسطين، يفضّل الآخرون، وبينهم الرئيس بوش، المجيءَ إلى منطقة الخليج. والآن يعلن الرئيس بوش أنه عندما يأتي في مايو لاحتفالات إسرائيل في الذكرى الستين لقيامها، فإنه لن ينسى عملية التسوية، وسيعقد قمةً مع الرئيس مبارك والملك عبدالله الثاني، وربما كان معهم كل من أولمرت وأبو مازن. ولدى الإدارة الأميركية للنجاح في العراق ثلاثة اعتبارات: التمكُّن من سحب جنودها من هناك، وأنّ العراق موضوع من الموضوعات المؤثّرة في الانتخابات الأميركية، وأنها لا تريد أن يتحول الفَشَل في العراق إلى كسْبٍ استراتيجيٍ لإيران. أمّا اعتباراتُ التسوية والسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين فليست على هذا القدْر من الإلحاح، إذ هي ليست من الموضوعات المؤثّرة في الانتخابات الأميركية، كما أنّ اليهود الأميركيين لم يحسموا أمرهم؛ ما إذا كانوا مع السلام الآن، أم أنهم يرون انتظار الظروف الأكثر ملاءمة. بيد أنّ الليبراليين والمحافظين التقليديين لهم رأيٌ آخَر مفادُهُ أنّ التسوية ينبغي أن تتحقق الآن لأنّ الأجواء العربية والإسلامية من حول إسرائيل تزداد راديكالية، كما أنّ العرب التسوويين يزدادون ضعفاً. ولذا فإنّ إنهاء الصراع قد يكونُ مفيداً في الحاضر لإسرائيل وللاستقرار في المنطقة، وإلاّ فقد تدخل الدولة العبرية في حالة صراعٍ غير محدَّد المدة والآفاق. على أنّ المتحمسين للتسوية وغير المتحمسين، يتوافقون على أنّ القيادة الإسرائيلية والقيادة الفلسطينية على حدٍ سواء، ليستا مؤهلتين بما فيه الكفاية لخوض العملية السلمية الزاخرة كما كان عليه الأمر أيام السادات وبيغن، وأيام عرفات ورابين. وهكذا ففي حين تحضُرُ همومُ العراق بقوة، فإنّ هموم إسرائيل- فلسطين لا تحضر إلاّ بالمنظور التاريخي، أي أنّ الرئيس بوش ووزيرة خارجيته يريدان دخول التاريخ من هذا الباب الضيّق الذي دخله الرئيس جيمي كارتر، وحاول الرئيس كلينتون دخوله وما استطاع. بيد أننا عندما نبحث جدول أعمال الإدارة الأميركية في عامها الأخير، وسط المتغيرات التي طرأت على ذاك الجدول في عامي 2006 و2007، نجدُ أنّ الموضوع الأصليَّ الذي أقامت عليه الإدارة البوشية أمجادها حلَّ به النسيان منذ غزو العراق، وهو موضوع الإرهاب. في الشهور الأخيرة أظهرت الإدارة الأميركية قلقاً شديداً على الوضع في أفغانستان، وحاولت استجماع قوى الحلف الأطلسي من جديد لإيقاف تردّي وضع الرئيس حامد كرزاي في وجه "طالبان" التي تزايدت نشاطاتُها وعملياتُها في العامين الأخيرين. والواقع أنّ الإدارة الأميركية حقّقت نجاحاً في إرغام الرئيس الباكستاني برويز مشرَّف على إعادة الديمقراطية والانتخابات في باكستان. ومع بدء الانتظام الباكستاني، تُصبحُ "القاعدة" أكثر عُزلة، وأقلّ قدرة على التحرك على الحدود وتلقّي الإمدادات والدعم. ثم إنّ هناك ما يشير إلى اتصالاتٍ بين الأميركيين و"طالبان" أو قطاعات منها. وكلُّ ذلك يعني عودةً للاهتمام بالموضوع الأصلي الذي أقامت عليه الإدارةُ حججها في غزو أفغانستان والعراق، وهو الإرهاب. ولأنَّ "القاعدة" والإرهاب موضوعان ما يزالان مؤثّرين في العقل الأميركي وإن تقدم عليهما العراق الآن، فإنّ هناك ما يشير إلى اتجاهٍ أميركي لإحياء الموضوع ليس في الداخل الأميركي فقط، بل وفي السياسات والاستخبارات. وما أعنيه أنه قد تكون هناك محاولةٌ الآن للنيل من ابن لادن أو الظواهري أو هُما معاً، وسيكون ذلك رمزاً لانتصارٍ كبير إن تحقق، كما حدث في حالتي الزرقاوي وعماد مغنية والآن مقتدى الصدر. فالمستهدفُ هنا فكرة "المقاومة" بحدّ ذاتها، أي كبح جِماح أعداء الولايات المتحدة، والذين صوَّرتهم إدارة بوش في صورة أولئك الذين يُعادون الحضارة والتقدم، وينشرون الدم والفوضى، ويهدّدون السلامَ العالمي. ولنعُدْ إلى لملمة أجزاء المشهد الذي تجد إدارةُ بوش نفسَها فيه خلال عامِها الأخير: هناك المشكلة الاستراتيجية المتعلقة بالجيش الأميركي في العراق، والناجمة عن كلفة البقاء هناك والعجز عن الانسحاب بدون تحقيق الحدّ الأدنى من الأهداف. وهناك المشكلة المتعلقة بالمناكفة مع إيران، والتي تتسبب باضطرابٍ في سائر أنحاء المنطقة، وفي أمن الخليج. وهناك المشكلة القديمة والمستمرة في فلسطين. وهناك أخيراً مشكلة الإرهاب والتي أقامت الولايات المتحدة الدنيا وأَقْعدَتها من أجِلها. وفي العامين الأخيرين برز موضوعان استراتيجيان جديدان: التجاذُب الحامي مع روسيا الاتحادية، والركود الاقتصادي الأميركي الذي تفاقّمَ في عام 2007. وفي كل هذه المشكلات، أو في أصِلها، تقعُ سياسات الأحادية القطبية التي اتّبعتْها إدارة بوش، فخلقت مشكلاتٍ كبرى، وفاقمتْ من مشكلاتٍ كانت صغيرةً في الأصل. فعلى مشارف عام 2005، بدت السياسات الأميركية الجديدة كما لو أنها أدّتْ إلى عكس المقصود منها. ولذلك حدثت مُراجعةٌ شاملةٌ من ضمنها إزالةُ سائر المسؤولين في الدفاع والسياسة الخارجية والاستخبارات والأمن القومي. وفي حين تدخل الأوروبيون الكبار للضغط وإصلاح الأمور مع روسيا، اتجه الأميركيون لاحتواء الوضع العراقي المتفجّر، وإظهار اهتمام من نوعٍ ما بالهموم العربية في فلسطين. وضعُف الاهتمام بـ"القاعدة" والإرهاب، لأنّ فعاليات "القاعدة" تراجعت بالفعل وبخاصةٍ بعد مقتل الزرقاوي، وظهور الصحوات بالعراق، وخمود عمليات "القاعدة" في السعودية والدول الأوروبية. لكنْ في الفترة الأخيرة كثُر الحديث عن أفغانستان وازدياد عمليات "طالبان" فيها، وكثُر الحديث في الضفة المقابلة، أي من جانب الظواهري، عن نشاطات معينة لـ"القاعدة". بيد أنّ "القاعدة" تُظهر للمرة الأولى تفكُّكاً وخلافات. فابن لادن، القليل الحديث، تحدث قبل شهرين كثيراً عن فلسطين. في حين ما يزال الظواهري مُريداً للابتعاد عن الملفّ الفلسطيني، والتركيز على مواجهة الولايات المتحدة والأنظمة العربية. ولذا فالذي يبدو أنّ الطرفين، أميركا و"القاعدة"، يتحفّزان لضربةٍ من نوعٍ ما، وهناك سباق مَنْ يكونُ البادئ أو الأكثر تأثيراً. وفي الوقت نفسِه ظهر كما لو أن التسويةُ في فلسطين ومِنْ حولها لا تجد أصداء أو أفعالاً قوية التأثير أو قياداتٍ راعية. وبذلك سيكونُ التركيز فيما يبدو، وفي ما تبقّى من عهد بوش على موضوعين رئيسيَّين: العراق، والإرهاب. وقد صار الإرهابُ مسألةً رمزيةً أكثر مما هو واقع. لكنّ الأميركيين يربطونه بمسألة المقاومة، وبذلك يُطِلُّون على "القاعدة" وعلى إيران في الوقتِ نفسِه. وهم اليومَ على مشارف اتهام إيران و"القاعدة" بالتعاوُن والتنسيق. وإذا بدا خطابُ ابن لادن الأخير خطاباً عربياً تقليدياً؛ فإنّ خطاب الظواهري يبدو أقرب إلى الخطاب الإيراني، في تقديم العداء للولايات المتحدة وللأنظمة العربية على أي أمرٍ آخَر. لكنْ من ناحيةٍ أخُرى، ليس المهمّ الآن البحث عن "الحقيقة" في علائق الطرفين، بل فيما تريد الولايات المتحدة إدخالهُ في وعي الأميركيين وفي وعي العالَم. فقد أدخلوا في الوعي الأميركي والعالمي من قبل أنّ صدام حسين عنده أسلحة دمار شامل، وهو يتعاون مع "القاعدة". وها هم يشيطنون إيران في السنتين الأخيرتين، ومن ضمن أساليب الأبلسة إدخالها مع "القاعدة" في محورٍ واحد. وعندهم لذلك أسبابٌ كثيرةٌ، منها التنافُس في العراق، والملفّ النووي، وإزعاج إسرائيل من خلال "حزب الله" و"حماس"، واستتباع سوريا، والابتزاز في الخليج. ولا شكّ أنّ النَيلَ من شخص ابن لادن أو الظواهري، إن تحقّق ذلك، سيكون مهماً من الناحية الرمزية في إظهار نجاح بوش أخيراً في مواجهة الإرهاب، وفي التمهيد لخلافة ماكين له. بيد أنّ النجاحَ في العراق أهمُّ لبوش ولخليفته الجمهوري إنْ كان. على أنّ النجاح في العراق أصعب بكثير من النجاح غير المؤكَّد في مواجهة "القاعدة"؛ إذ هو ذو شقَّين: شِقّ التمكُّن من سحب الجيش الأميركي دونما التردّي في فوضى طليقة، وشقّ الحيلولة دون سيطرة إيران على المنطقة الشيعية بالعراق. كيف يمكن تقييم السياسة الأميركية في الشرق الأوسط في سنة بوش الأخيرة؟ رغم النجاحات النسْبية في العامين الأخيرين، ما يزال التقييم أدنى للسلْب والفشَل. والموضوعان أو الجرحان النازفان هما العراق وفلسطين. وما نجح الأميركيون في تحقيق الاستقرار بالعراق بعد، في حين لا ينشغل بفلسطين غير وزيرة الخارجية رايس. ويبدو أنه بسبب القصور في الملفَّين، يضيف الاستراتيجيون موضوعَ الإرهاب من جديد، رجاء تحقيق نجاحٍ رمزيٍ فيه. هناك إذن في عام بوش الأخير أعمالٌ للرئاسة والتاريخ، وأهمُّها موضوع فلسطين المتصل بالعلاقات العربية -الأميركية. وهناك أعمالٌ للخلافة، أو لخدمة الحزب الجمهوري ومرشّحه ماكين، وأهمُّها العراق والإرهاب.