الإنثروبولوجيا علم مثير للجدل، فهو يسعى إلى دراسة الإنسان باعتباره كائناً اجتماعياً وتحديد علاقته بالثقافة السائدة وكيفية تأثيرها على سلوكه. لذا ليس غريباً أن ينتقدها كاتب مثل إدوارد سعيد باعتبارها استشراقاً لجأ إليه الاستعمار الغربي لفهم الشعوب والبلدان التي يريد إخضاعها واجتياح أراضيها. وبهذا المعنى تصبح الإنثربولوجيا أول الطلائع في الحرب على الآخر والمفتاح الذي يمهد الطريق للجيوش بعد أن تكون الشعوب قد وُضعت تحت مجهر البحث الدقيق لتشريح هياكلها الثقافية والاجتماعية المختلفة. والكتاب الذي نعرضه اليوم بعنوان "الثقافة والصراع في الشرق الأوسط"، لمؤلفه الإنثروبولوجي "فيليب كارل سالزمان"، هو إحدى تلك المحاولات التي تسعى إلى تشريح ثقافة الشرق الأوسط بالتركيز على المحددات الثقافية والاجتماعية التي تحكم الإنسان في هذه المنطقة وتصوغ تصوراته عن العالم. فالكاتب منذ البداية يحدد مفهومه الخاص للإنثروبولوجيا، ليس باعتبارها مجرد توصيف لثقافات العالم المختلفة وكشف لآلياتها الداخلية، إنما أيضاً باعتبارها استنطاقاً لعوامل ثقافية معينة وتداعياتها على الشعوب. ولعل هذا المفهوم بالذات ما يجعل الكتاب إشكالياً لأنه في الوقت الذي يكشف فيه عن العوامل الثقافية المشكلة لحياة الإنسان العربي، فإنه أيضاً يلقي بأحكام القيمة من خلال تعميمه لمحددات معينة على مجمل تاريخ الشرق الأوسط الذي يرجع إلى ما قبل الإسلام ويمتد حتى اليوم. ويقر الكاتب أنه لفهم الشرق الأوسط وصراعاته لا بد من سبر غور الثقافة العربية والمحددات الرئيسية التي تعتمل داخلها وتؤثر على السلوك الجماعي للإنسان. وأهم هذه العوامل في نظر الكاتب هو الدور الذي تلعبه القبيلة في تشكيل الحياة الثقافية والاجتماعية للإنسان، وفي القلب من القبيلة تبرز خاصيتان أساسيتان؛ الأولى مرتبطة بالولاء للجماعة والعلاقات المتشابكة بين أفراد القبيلة الواحدة، والثانية هي ما يسميه "توازن المعارضة"، بحيث تنشطر القبيلة ذاتها إلى مكونات داخلية تتوزع بين العائلة الواحدة والعشيرة التي تجمعها علاقات الدفاع المشترك. فالعائلة الواحدة تتكتل لمواجهة عائلة أخرى داخل القبيلة نفسها، والعشيرة ضد العشيرة، لترتقي هذه الثنائية إلى بنية أكبر تعارض بين قبيلة وأخرى. والقبيلة من حيث هي تنظيم محلي للدفاع المشترك تقوم على ذلك التقابل وتعتمد في الاستقرار على نوع من توازن القوة. ولفهم التأثير الذي تمارسه القبيلة على تطور الثقافة العربية، يستدعي الأمر دراسة الخصائص الرئيسية للقبيلة في الشرق الأوسط. وفي هذا الإطار يشرح الكاتب الدور المنوط برجال القبيلة والمنتسبين لها والمتمثل بداية في تكثير أفراد القبيلة عبر الإنجاب، ثم حيازة أكبر عدد من قطعان المواشي التي يعتمد عليها اقتصاد القبيلة. والأسباب عديدة، فالأطفال كما يقول الكاتب، يضمنون ما يكفي من اليد العاملة التي تزاول شتى الأعمال المرتبطة باحتياجات القبيلة، لاسيما النظام الرعوي القائم على العمل الشاق. والأمر الثاني أن أبناء القبيلة هم أكثر التزاماً بالمصلحة العامة من الأشخاص الذين يمكن استقدامهم من خارجها، والأكثر من ذلك أن العائلات الممتدة تعزز مكانتها السياسية داخل القبيلة. وبالنظر إلى الدور الدفاعي الذي تضطلع به القبيلة، فضلاً عن ثقافة الغزو المتجذرة لديها، فإن قوتها تعتمد على عدد المقاتلين الذين يمكن حشدهم عند الحاجة. وبنفس الدرجة التي تعتمد فيها القبيلة على تكثير أفرادها عبر الإنجاب، فإنها أيضاً تسعى إلى توسيع أعداد القطعان من الماشية والإبل للحمها وحليبها، وأيضاً لوبرها وصوفها. لكن الخصائص التي تقيس بها القبيلة نجاحها والمتمثل في العنصرين السابقين، وهما تكثير الأفراد وتوسيع القطيع، يضغطان مع مرور الوقت على المناطق الرعوية وعلى موارد المياه والأراضي الزراعية. لذا تلجأ القبيلة من أجل استيعاب تزايد عدد الأفراد إلى التوسع الجغرافي، وهو غالباً ما يكون على حساب التجمعات السكانية المجاورة. ومن هنا الحاجة إلى شن غارات على القبائل القريبة لامتلاك مزيد من الأراضي وحيازة عدد أكبر من رؤوس الماشية. هذه البنية القبلية هي ما يعزز، حسب الكاتب، الشعور بالوحدة والتضامن، كما تزيد من أهمية العداء للآخر خارج القبيلة، بحيث يصبح الهجوم على القبائل المجاورة لحيازة الأرض والقطيع أكثر من أمر عادي، بل هو أمر مرغوب فيه يتحول إلى رمز للبطولة والشرف. هذا التلاحم بين أفراد القبيلة الذي يطغى على ما سواه من أشكال تنظيم الدولة الحديثة، يفسر، في نظر الكاتب، العديد من الأمور لعل من أهمها فشل الديمقراطية في التجذر في بعض البلدان الشرق أوسطية التي لم تفرز سوى الهياكل القبلية نفسها. فأفراد القبيلة عادة ما يصوتون على بعضهم بعضا، وبالتالي يعيدون إنتاج البنية القبلية وترقيتها لتصبح جزءاً من الدولة. لكن هذه الأخيرة تضعف وتترهل في الأوقات الحرجة عندما تظهر الخلافات وتبرز الهويات المحلية ولتتأجج العصبية القبلية بخاصيتها التي أشار إليها الكاتب والمتمثلة في توازن المعارضة. وفي هذه الحالة تلتف المكونات الصغرى حول بعضها بعضا وتنكفئ على نفسها تحسباً لهجوم من مكونات أخرى كانت إلى وقت قريب تقف إلى جانبها داخل هياكل الدولة، ومن ثم الصراعات التي يشهدها الشرق الأوسط في العراق ولبنان وغيرهما. زهير الكساب ـــــــــــــــــــــ الكاتب: الثقافة والصراع في الشرق الأوسط المؤلف: فيليب كارل سالزمان الناشر: هيومانتي بوكس تاريخ النشر: 2008