في إطار موجات التفاؤل التي تكاد تغرقنا فلسطينياً وإسرائيلياً، كشفت صحيفة "يديعوت أحرانوت"، تحت عنوان "العشق السري الإسرائيلي -الفلسطيني"، عن عقد أكثر من 50 لقاءً سرياً بين رئيس الوفد الفلسطيني المفاوض (أحمد قريع) ووزيرة الخارجية الإسرائيلية (تسيبي ليفني). وقد تحدثت الصحيفة عن حصول "تقدم" في تلك اللقاءات حول قضايا "الحل الدائم"، بهدف التوصل إلى "اتفاق رف" يرهن تنفيذه بتطبيق "خريطة الطريق"، ناقلةً عن مصدر سياسي إسرائيلي رفيع المستوى قوله إن هذه المفاوضات هي "الأكثر جدية منذ اتفاق أوسلو"، وإن "جميع قضايا الحل الدائم"، بما فيها القدس المحتلة، مطروحة على طاولة المفاوضات! وفي سياق التفاؤل السائد ذاته، "انتزعت" الوزيرة الأميركية كوندوليزا رايس خلال زيارتها الأخيرة في شهر مارس المنصرم، موافقة إسرائيليةً على إزالة 50 ساتراً ترابياً في الضفة الغربية، معتبرة أنها خطوة لـ "تحقيق تقدم ملموس نحو تحسين حياة الشعب الفلسطيني"(!)، مضيفة أنها أثارت مع المسؤولين الإسرائيليين مسألة الاستيطان التي وصفتها بأنها "من الالتزامات الأساسية في خريطة الطريق". كذلك، تعهد رئيس الوزراء الإسرائيلي (إيهود أولمرت) بعد لقائه رايس، بوضع أسس إجراءات "بناء الثقة"؛ وتشمل وعداً بالسماح ببناء ما بين خمسة آلاف وثمانية آلاف منزل فلسطيني قرب رام الله، كما تشمل السماح بنشر قوات أمنية في مدينة جنين، وإصدار 1500 تصريح خاص للسماح لرجال أعمال فلسطينيين بالتنقل بحرية أكبر في الضفة، ولخمسة آلاف عامل بناء فلسطيني بدخول إسرائيل إلى جانب 18500 لديهم فعلاً تصاريح دخول. هذه هي إذن، مؤشرات ومسببات حالة التفاؤل عند البعض. لكن ما هو حديث الوقائع الصلبة على الأرض؟ واضح أن تعهد إسرائيل بإزالة السواتر الترابية ليس كافياً والمطلوب إنهاء الاحتلال أو على الأقل إلغاء حواجز الطرق الرئيسية التي تخنق الضفة. أما إزالة خمسين حاجزاً -إن هي أزيلت حقاً- فخطوة غير جدية بل هي نكتة سمجة إذ أن ذلك يبقي على الحواجز العسكرية الرئيسية التي قسمت الأراضي الفلسطينية إلى كانتونات. وكان الرئيس الفلسطيني أكد في كلمته أمام قمة دمشق أن "الحل الذي تقوم إسرائيل برسم معالمه وخريطته على الأرض، لا يتجاوز مجموعة من المعازل في أرض ممزقة بالمستوطنات وبجدار الفصل العنصري والحواجز والحصار". كما أن آخر تعداد للأمم المتحدة (19 فبراير الماضي) أفاد بأن الجيش الإسرائيلي "يقيم 580 حاجزاً كبيراً وساتراً معيقاً أو خندقاً في الضفة، وهو عدد ارتفع منذ انعقاد مؤتمر أنابوليس"! ومن جهتها، أعلنت "السلطة" إن إسرائيل لم تُزِل أي حاجز في الضفة. ومع التفاؤل المتكاثر، يزداد الاستغراب كون إسرائيل تنكأ الجراح يومياً بالتهويد المستمر للقدس وأراضيها ومقدساتها. إضافة لذلك، ثمة دلائل متزايدة على أن "يهودية" إسرائيل سوف تتكثف وتزداد تزمتاً في العلاقة مع فلسطينيي 48 الذين سوف يخيرون بعد "التسوية" (إن تمت) بين الولاء الكامل لإسرائيل، أو الرحيل، أو القبول بحقوق منقوصة. والمستغرب أكثر من ذلك، أن رياح التفاؤل التي هبت مؤخراً قد جاءت في ظل مصادقة اللجنة المحلية للتخطيط والبناء في بلدية القدس الصهيونية، على مخطط لبناء 600 وحدة سكنية جديدة في إطار مخطط شامل لبناء 40 ألف شقة سكنية، بذريعة النقص في الشقق السكنية للزيجات الجديدة والأسعار العالية للشقق في المدينة! وبمناسبة "حديث التفاؤل"، يجدر الانتباه إلى أن معظم النخب الإسرائيلية تسعى لإنشاء "إسرائيل الجديدة" وجوهرها تطوير "يهودية" الدولة. ويلاحظ في السنوات الأخيرة صدور تشريعات وتأسيس حقائق على الأرض "توسع" يهودية الدولة بمنح الحقوق والامتيازات والمواطنة لليهود دون فلسطينيي 48. وقد كتب "يوسي سريد" مقالة في "هآرتس" بعنوان "أنابوليس يتبخر كالدخان"، قال فيها: "إنهم ليس فقط بمنأى عن الاقتلاع، بل إنهم أيضاً لا يجمدون البناء. فللحظة لن يتخلوا عن كل الأحابيل والألاعيب التي بواسطتها يضربون الحدود، ويتجاوزون كل حدود. العائدون من أنابوليس استقبلهم البناء في هار حوما، وجدول المعاذير: مرة أرض بلدية، ومرة أرض دولة، ومرة ثالثة الزيادة الطبيعية. وبات واضحاً للعالم أنه لا توجد قوة لفرض القانون على المستوطنين، ولهذا فإنهم سيفرضونه حالياً على المدخنين فقط. أما أنابوليس فيتبخر كالدخان". والغريب أن المتفائلين يتجاهلون تصريحات القادة الإسرائيليين بشأن قضايا الحل النهائي. فهؤلاء -حقاً- يتفاوضون مع أنفسهم وليس مع الفلسطينيين! ومع التفاؤل السائد، صرح "حاييم رامون" النائب الأول لـ"أولمرت" إنه لم يبق زمن طويل حتى يتوصل الطرفان إلى اتفاق حول قضايا الحل الدائم، وإن الهدف اليوم من المفاوضات هو التوصل لاتفاق مبادئ يشمل الخطوط الرئيسية للحل، مؤكداً أن عشرة بالمائة من الأراضي الواقعة إلي الغرب من جدار الفصل العنصري ستكون تحت السيطرة الإسرائيلية في الحل النهائي مع الفلسطينيين. أما فيما يتعلق بحق عودة اللاجئين، فإن الجميع، وفق تعبيره، بات يعلم بأن الحل يكمن في السماح لهم بالعودة إلى الضفة وإلى القطاع، مشدداً على أن إسرائيل ترفض رفضاً مطلقاً إعادة حتى لاجئ واحد إلى مناطق الـ48! إن إسرائيل لم تعجز يوماً عن خلق سحب "دخان" التفاؤل للتمويه، وتثبيت "صخر" الوقائع على الأرض. فحتى الرئيس عباس، الذي تعتبره أميركا وإسرائيل وأوروباً "رمزاً للاعتدال"، وتميزه إسرائيل باعتباره "رجل سلام يحارب الإرهاب"، فإنه يتعرض لضغوط هائلة تهدف إلى إضعافه فلسطينياً وعربياً حتى "يقع" في الحلقة المفرغة للتنازلات. فكلنا يعلم أن ضغوطاً كبيرةً مورست على الرئيس عباس (وغيره) لمقاطعة قمة دمشق، مثلما مورست ضغوط أخرى للتبرؤ من "اتفاق صنعاء" وغير ذلك كثير! والحال كذلك، ثمة شبكة عنكبوتية متناقضة تعصف في الموقف الحالي: فالجانب الفلسطيني لا يستطيع أن يرفض التفاوض مهما كانت الظروف والأسباب، ذلك لأن كل الدعم الدولي للسلطة مشروط، ليس بالوصول إلى تسوية، بل في استمرار التفاوض. وإسرائيل، من جهتها، ليست معنية كثيراً باستمرار المفاوضات وتدفع باتجاه انسحاب الجانب الفلسطيني منها، فتلك عندئذ فرصتها لتحميله المسؤولية الكاملة عن الفشل الذي بات نتيجة متوقعة، مع تقلص فرص التوصل لحل قبل نهاية 2008. ومع ذلك، نتوقع استمرار لقاءات عباس- أولمرت، وكذلك اجتماعات لجان التفاوض التي ستلبي فقط حاجة أميركية- إسرائيلية حتى يظل المجتمع الدولي راضياً عن حركة، وإن وهمية، لعملية السلام!