كانت السيناتورة "هيلاري كلينتون" آخر شخصية سياسية تدعو إلى مقاطعة الحفل الافتتاحي لدورة بكين الأولمبية القادمة المقرر أن تبدأ في الثامن من شهر أغسطس المقبل. وعلى الرغم من أن السبب المباشر الذي دعاها إلى ذلك هو قلقها بشأن حملة القمع الوحشي التي قامت بها السلطات الصينية في "التبت" مؤخراً، إلا أن هناك أسباباً أخرى جعلتها تتبنى هذه الدعوة؛ منها على سبيل المثال موقف إدارة بوش المتراخي تجاه ملف حقوق الإنسان الصيني. قبل "هيلاري كلينتون"، كانت المستشارة الألمانية "إنجيلا ميركيل" والرئيس الفرنسي "نيكولا ساركوزي"، قد أعلنا أنهما ربما لن يحضرا الحفل الافتتاحي، على الرغم من أنهما لم يدعوا صراحة لمقاطعة الألعاب ذاتها. ولم يقتصر الأمر على الساسة، حيث وجدنا أن الشعلة الأولمبية التي بدأت رحلتها الطويلة إلى بكين منطلقة من العاصمة اليونانية أثينا، والتي استضافت دورة الألعاب الأولمبية الأخيرة عام 2004، قد واجهت بعض المشكلات في كل من لندن وباريس، وذلك عندما تعرض المحتجون للرحلة الاحتفالية الرمزية لحمل الشعلة، وحاولوا تعطيلها، لدرجة دفعت الشرطة الفرنسية إلى إطفاء لهب الشعلة، ونقلها في حافلة، لتجنب حدوث مواجهات بينها وبين المتظاهرين في باريس. ومن المتوقع أن تتعرض الشعلة الأولمبية لمزيد من المتاعب، عندما تواصل رحلتها عبر البلاد المختلفة، حتى ينتهي بها المطاف في بكين. لم تكن الصين بالطبع تتمنى أن يحدث ذلك قبل الألعاب الأولمبية التي كانت تنوي تحويلها إلى احتفالية كبرى تدشن بروزها كقوة عالمية ذات شأن، تماماً مثلما كانت دورة "برلين" الأولمبية عام 1936 تدشيناً لعهد أدولف هتلر وألمانيا النازية، وهي مقارنة ترد على أذهان كثيرين في الوقت الراهن. ومن المعروف أن الصين، كانت تريد استضافة دورة الألعاب الأولمبية عام 2000، لكن حملة القمع العنيفة التي قامت بها ضد المتظاهرين المطالبين بالديمقراطية في ميدان "تيانانمين" عام 1989 جعلت اللجنة الأولمبية الدولية ترفض إقامة الدورة في بكين، وتم منح حق تنظيم أولمبياد 2000 لمدينة سيدني الاسترالية. كان من الطبيعي أن يحس الصينيون بالمهانة نتيجة ذلك الرفض، لكن عندما تم منحهم حق تنظيم دورة 2008 في نهاية المطاف، فإنهم اتفقوا مع اللجنة الأولمبية الدولية على أنهم سوف يوفرون للصحافة العالمية كافة التسهيلات، ويفتحون أمامها كافة الأبواب التي تسمح لها بحرية العمل، وأن يخففوا من انتهاكاتهم الجسيمة في ملف حقوق الإنسان. مع ذلك فما نراه يحدث الآن أنه كلما اقترب موعد إقامة الدورة، كلما أصبح الصينيون أكثر توتراً وأشد عنفاً في قمع المنشقين، وأكثر صلابة وتحدياً في مواجهة الضغوط التي يمارسها عليهم المجتمع الدولي بشأن مسألة التبت باعتبارها المشكلة المطروحة على الساحة في الوقت الراهن. بيد أن المشكلة الأكثر بروزاً والتي يواجهها النظام الصيني مع المجتمع الدولي، تتعلق بالسودان، وبالإبادة الجماعية الفعلية التي تمارسها حكومة هذه الدولة في إقليم دارفور الغربي. فدعم الصين للحكومة السودانية التي ترتبط معها باتفاقيات بترولية مهمة، هو السبب الذي دفع نجمة السينما العالمية "ميا فارو" كي تطلق على دورة بكين الأولمبية "دورة الإبادة الجماعية"، كما دفعها أيضاً للضغط على المخرج العالمي "ستيفن سبيلبيرج" للانسحاب من منصبة كاستشاري للحكومة الصينية في الحفل الافتتاحي. حتى الآن استخدمت الصين نفوذها العالمي المتزايد بقدر كبير من الحنكة والمهارة ودأبت على التحدث عن "صعودها السلمي"، بيد أن المشكلة هنا تكمن في أن دبلوماسية الصين لا تنسجم مع سياساتها الاقتصادية التي سعت من خلالها إلى عقد اتفاقيات تجارية مع الدول الغنية بالموارد الطبيعية في أفريقيا وأميركا اللاتينية. هذه السياسة، كانت تعني أنها ستضطر إلى التعامل مع أنظمة مثل النظام السوداني، الذي لا يأبه البتة بحقوق الإنسان، لكنها لم تهتم كثيراً بذلك، بعد أن تعلمت من خلال التجربة أنها كي تكون قوة عظمى، فإن ذلك سيعني أنها ستضطر إلى اتخاذ خيارات قد لا تروق للبعض، وأنه من المستحيل أن تكون محبوبة من الجميع للأبد إذا ما قررت إتباع سياسة نمو اقتصادي لا ترحم. وهناك مسائل أخرى قد تؤدي إلى إلحاق مزيد من الأضرار بالألعاب الأولمبية، وأبرزها الظروف البيئية في بكين، وإمكانية أن يتم تغيير مسار بعض الألعاب التي تقام في الهواء الطلق وتستغرق فترة زمنية طويلة؛ مثل سباقات القدرة للدراجات وسباقات الماراثون، أو حتى إلغاءها، بسبب التلوث. ولو حدث هذا فإنه سيكون بمثابة ضربة أخرى للكبرياء الصيني، كما سيلقي الضوء على الأكلاف التي تدفعها الصين مقابل نموها الاقتصادي السريع. وهناك أيضاً احتمال أن تتحول الألعاب نفسها إلى مسرح للاحتجاجات السياسية، نظراً لحضور مئات الآلاف من الزوار الذين يكره كثيرون منهم -على ما يبدو- السياسات الصينية. لم يتأخر الوقت كثيراً على إمكانية استعادة الصين لكبريائها، إذا ما أظهرت نوعاً من التفهم لشكاوى الأقليات التي تعيش فيها، وعلى وجه الخصوص سكان هضبة التبت. لكن هذه المقاربة لا تروق كما يظهر للمشاعر القومية الصينية الصاعدة، والتي لا تقتصر على النخبة في الحزب الشيوعي، لكنها تنشر على نطاق واسع في كافة شرائح الطبقة الصينية المتعلمة، والمصممة على تحقيق المصالح الصينية بصرف النظر عن أي شيء آخر، وعلى استعادة اعتبار الصين عالمياً، والانتقام لكرامتها التي أهدرت لقرون عديدة على أيدي الغرب. ومن المرجح أن يكون أداء الرياضيين الصينيين فائقاً في الألعاب المختلفة خلال هذه الدورة، ومن المرجح كذلك أن تفوز الصين بالعدد الأكبر من الميداليات، بيد أنه لو فسدت الأجواء أثناء الدورة، فإن محصلة ذلك يمكن أن تشكل كابوساً للحكومة الصينية، في وقت بدأ فيه اقتصادها يواجه صعوبات، وأصبح فيه من الممكن لطبقاتها الدنيا أن تنفس بحرية عن غضبها وإحباطها ضد النظام خلال فترة تنظيم الدورة الأولمبية.