تبدو المناورة الإسرائيلية التي تقيمها إسرائيل حالياً، وهي أخطر مناوراتها عبر تاريخها إنذاراً للعالم بأن المنطقة مقبلة على حرب كبرى، ومع أن المجتمع العربي يريد أن يصدق تطمينات إسرائيل حول كون المناورة مجرد تدريبات، لكن الكثرة من المراقبين والمحللين يعتقدون أن كلمة أولمرت في بدء المناورة "نشبت حرب" تعني حقيقة وليس مجرد تدريب. ولم تكن مبررات إسرائيل لشن حرب جديدة سراً على أحد، ولاسيما بعد تقرير فينوغراد، كما أن المحللين يدركون أن رفض إسرائيل للمبادرة العربية للسلام، هو دليل إصرار على متابعة الحروب، وقد ردت إسرائيل على المبادرة يوم أُطلقت في قمة بيروت بتصعيد للعنف والقتل والتدمير، ثم شنت حربها الأخيرة على لبنان، وجاءت نتيجتها مأساوية لإسرائيل، مما يجعل المحللين يعتقدون أن إسرائيل لن تقبل بأن تكون حرب تموز (يوليو) عام 2006 آخر حروبها، ويعتقدون أيضاً أن الرئيس بوش لن يقبل بأن يغادر البيت الأبيض، تاركاً إسرائيل في وضع أسوأ مما كانت عليه أيام كلينتون الذي بدا راغباً في البحث عن تسوية سلمية للصراع تسجل في تاريخه. ولكن فريق الصهيونية المتطرفة ممن ساهموا في قتل عملية السلام وقتلوا رابين لأنه بدا جاداً كذلك، سارعوا لتشويه سمعة كلينتون، وقد ترك في درج مكتبه قبل أن يغادر البيت الأبيض رسالة لخلفه هي وثيقة مهمة تحدد رؤيته التي لم يسمحوا له بتنفيذها، وما زلنا نذكر قول نتانياهو "سأحرق واشنطن" حين كان رئيساً لوزراء إسرائيل. وقد رددت في مقالاتي أكثر من مرة أنه فعلها وأحرق واشنطن بفستان مونيكا، ثم أحرقها المتطرفون في جريمة 11 سبتمبر كي يقحموا الولايات المتحدة في حروب إسرائيل الكبرى، وقد بدأت في أفغانستان حرباً على الإسلام في زلات اللسان، ولم يكن يخفى على أحد أن "طالبان" هم صناعة أميركية خالصة، وأن بن لادن الذي بات طريد بوش على الطريقة الهوليوودية تم تصنيعه برعاية أميركية لا تخفى على أحد. وقد ضحك القادة العرب حين ذكَّرهم القذافي بأن صدام حسين كان صديق أميركا لكنهم شنقوه، ولم تكن مبررات حربهم على العراق أكثر إقناعاً من مبررات حربهم على أفغانستان، فهم طالبوا الملا عمر بأن يسلمهم بن لادن، وطالبوا صدام بأن يسلمهم أسلحة الدمار المزعومة. ورغم أن العالم كله يكتم سخرية مرة من مبررات الحرب على أفغانستان، فإن وسائل الإعلام الصهيونية والمتصهينة ما تزال تعبث بعقول الناس، و"تُفبرك" مبررات جديدة لحروب جديدة، وبات أشهرها الملف النووي الإيراني. وكان من السخف كذلك أن يروج الإعلام المتصهين بما فيه الناطق بـ(العربية) مسلسل أكاذيب لإفساد العلاقة بين سوريا ولبنان، وتعليق المشكلة اللبنانية بعنق سوريا كأنها هي الآمرة الناهية في لبنان، أو كأن المعارضة اللبنانية والمقاومة اللبنانية مجرد أشباح أو مسرح عرائس يدار من سوريا، وهم يتجاهلون جوهر القضية التي يختلف حولها اللبنانيون. والمهم أن الرئيس بوش سيصعب عليه أن يغادر البيت الأبيض ولم يحقق لإسرائيل سوى هدف وحيد هو تدمير العراق، وهدم قوته التي كانت إسرائيل تخشاها وتحرص على توجيهها ضد إيران الصاعدة فيما عرف بسياسة "الاحتواء المزدوج"، وهي سياسة نجحت في عقد الثمانينيات بتدمير الطرفين في حرب مفتعلة تم زج العرب فيها دون أن تكون لهم أية مصلحة قومية، وقد هدروا أموالهم بلا طائل، فضلاً عن مقتل وتشريد الملايين من المسلمين عرباً وإيرانيين. وقد انتهت الحرب دون تحقيق أي هدف عسكري أو سياسي منها، وسرعان ما بنى العراقيون والإيرانيون قوتهم من جديد، وقد سارعت إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة بتوجيه قوة العراق الصاعدة نحو الكويت، وقد لباها صدام كما لباها في حربه ضد إيران، ولم يخطر له أنها ستكون القاضية عليه وعلى العراق معاً، فقد قدم غزو صدام للكويت مبرراً لمجيء قوات التحالف الدولي التي كان دخولها إلى الأرض العربية سهلاً، ولكن خروجها لن يكون سهلاً على الإطلاق، وقد اكتظت الأرض العربية بالقواعد العسكرية الأميركية التي تشكل احتلالاً خفياً لكثير من البلدان العربية التي انطلقت منها الطائرات التي قصفت بغداد، وربما ستنطلق منها طائرات أخرى لقصف بلدان عربية أخرى، ولا حول ولا قوة لهذه البلدان فهي لا تملك أن تقول (لا نقبل) لأن الثمن سيكون مكلفاً جداً. ولكن السؤال الذي يردده حكماء اليهود حول الحرب القادمة: "إلى أين سنمضي... وإلى أين يقودنا أولمرت؟"، وقد كانوا يطرحون هذا السؤال على البلدوزر شارون الذي سحق مدناً وقتل الآلاف ولكنه بات قعيداً مشلولاً لم يستطع بكل جرائمه الشنيعة والفظيعة أن ينقذ مستقبل إسرائيل، بل إن عقلاء اليهود كانوا يقولون إنه يقودنا إلى الجحيم، ولعل إنجازه الأهم هو سجن إسرائيل خلف الجدار. ولقد شعر أولمرت أمام استخفاف الإسرائيليين بخبرته القيادية، وهم يعرفون أنه رجل ضعيف الرؤية، بأن الفرصة سانحة له كي يصبح "بطلاً" يفوق شارون، وكي يتجاوز هزيمة باراك في جنوب لبنان، فشن حربه الهمجية على لبنان في صيف 2006 فجاءت نتيجتها كارثة عليه وعلى إسرائيل، وأدرك الإسرائيليون أنهم اليوم يفتقدون قائداً مقنعاً، وقد استعادوا باراك، لكنهم يكتمون شعوراً بالشك في قدرته على تحقيق نصر لإسرائيل، وأعتقد أنه سيحسب ألف حساب قبل أن يغادر الدنيا تاركاً لتاريخ إسرائيل هزيمة نهائية تسجل في خانته، فالحرب القادمة التي يمكن أن تشنها إسرائيل قادرة على تحقيق تدمير وقتل، ولكنها لن تكون بأية حال قادرة على تجنيب إسرائيل ما سيلحق بها من تدمير مماثل. ولئن كانت إسرائيل تمتلك قوة عسكرية أكبر من قدرات العرب بفضل تبرع الولايات المتحدة لخوض الحرب معها، فإن قدرة إسرائيل على تحمل الضحايا والتدمير أقل بكثير من قدرة العرب على التحمل، وحسبنا أننا نرى لبنان وهو بلد صغير، تحمل آثار حرب تموز (يوليو) 2006 ونهض منها شعب لبنان ومقاومته بسرعة معافى متيناً. وبوسعنا أن نسأل لو أن إسرائيل أصيبت بما أصيب به شعب لبنان على يدها، هل كان بقي أحد يعيش في إسرائيل؟ وهل سيبقى فيها أحد إذا ما غامرت إسرائيل بضربة جديدة للبنان هدفها إبادة المقاومة، وليس سراً أن المقاومة ستخوض حرب المصير، وهذا ما سيجعلها تخوضها بقوة وصلابة تفوق بكثير ما رأت إسرائيل في الوعد الصادق. ونحن في سوريا ندرك أن من الاحتمالات الممكنة قيام إسرائيل بتوجيه ضربة مؤلمة لأهداف حيوية، وندرك أن بوسع إسرائيل إلحاق الضرر بنا، ولكن سوريا قادرة على التحمل وشعبها قادر على التضحية، ولكن السؤال الذي ينبغي أن يطرحه قادة إسرائيل على شعبهم: هل تتحملون تكلفة الرد؟ وحسبنا أن نذكر أن شعبنا في العراق تحمل ما لو أصيب شعب إسرائيل بسهم بسيط منه لما بقي من إسرائيل شيء؟ والسؤال ذاته يطرح على شعب إسرائيل إذا تورط قادتها بتوجيه ضربة إلى إيران، وأظن أن القادة الجالسين في مكاتب أنيقة في البيت الأبيض وفي البنتاغون يخططون على الورق، وربما أخذتهم العزة بالإثم، فما عادوا يبصرون أو يصدقون بأن الدنيا تغيرت، وأن الشعوب هي التي تخوض الحروب اليوم، ولن تكون حروب المستقبل حروباً نظامية، وإنما هي حروب المقاومة التي تستطيع أن تصد العدوان، وأن تلحق بالعدو أشد مما يلحق بها من خسائر. والنداء الذي نطلقه للعقلاء من أجل حقن الدماء، تعالوا إلى كلمة سواء، هي اليوم مبادرة عربية شاملة للسلام، تقدم لإسرائيل فرصة الأمن والبقاء، على أن تعيد للعرب بعض حقوقهم، فالمبادرة تغض الطرف عن كل ما كان قبل الرابع من حزيران (يونيو) 1967، وهذه فرصة تاريخية لإسرائيل التي لن تحصد من الحروب سوى الدمار، الذي سيجعل النار تحيط بها من كل صوب.