انتهت القمة ببيان فيه روح التهدئة والتوافق كما هو متوقع. ولكن ذلك لا يجعلها قمة ناجحة أو قمة "هادئة". فأولاً لم يوجد مثل هذا الشيء إلا استثناء من ثلاثين قمة عادية وطارئة. فكان القانون العام للقمة هو الهزات والخضات والأزمات ومحاولات مضنية في الوقت نفسه للوصول إلى توافق. لدينا ثلاثون قمة، وهو ما يعني أن مسعى التوافق نجح في حالات كثيرة. ولكن السؤال هو: هل ينجح هذه المرة أيضاً أم تكون هذه القمة فاصلة بين حقبتين وتنتهي الحكاية الطويلة والمعقدة للجامعة العربية؟ كانت محاولات الوفاق ناجحة عندما توفرت لها أربعة عوامل رئيسية؛ الأول هو توفر قدر كبير من التصميم والحزم على أن تنجح الجامعة أو القمة، حتى لو اضطرت لخسارة بلد عربى أو آخر. فالإجماع في ظروف الأزمات بالذات ليس أمراً سهلاً، ولكن الأهم أن انتظار الاجماع يرهن المنظمة الاقليمية لدولة واحدة، وهو ما حدث في منظمات دولية كثيرة. وعلى أهمية مصر كان مؤتمر قمة بغداد عام 1978 ناجحاً بهذا المعنى على الأقل حيث كشف عن رغبة الفاعلين الكبار في النظام في التضحية بهذا البلد العربي القائد من أجل استمرار القيم التي عبرت عنها الجامعة. وفي السياق نفسه، فإن مؤتمر قمة عمّان عام 1987 عقد بعد أن اتخذ مجلس التعاون الخليجى قراراً حاسماً بعزل سوريا إنْ لم تتماشى مع الموقف العربي العام المطالب بوضع نهاية فورية للحرب العراقية- الإيرانية. وساعد هذا الحسم فعلاً على دفع دمشق للمشاركة والموافقة على بيان ختامي كان هذا الموقف جوهره. وعلى العكس، فإن الحرص الزائد على الاجماع ربما كان ضرورياً لمجرد عقد جلسات القمة مع غياب روحها. وكثيراً ما كان التوصل إلى تسويات متسرعة أو شكلية بطريقة "تبويس اللحى"- كما يطلق عليها في الدبلوماسية العربية- أمراً غير مناسب على الإطلاق، حيث استمرت الصراعات والحروب الإعلامية بعد القمة، وكأن شيئاً لم يحدث. وضوح المرجعية يساعد كثيراً على بناء الاجماع وعقد قمم ناجحة. والأصل أن يتم ذلك على خلفية المشروعية العربية وخاصة فيما يتعلق بالشأن الفلسطيني. ولكن ما حدث هو أن العالم العربي انقسم إلى مواقف متضاربة كثيراً فيما يتعلق بهذا الشأن وغيره. وعلى سبيل المثال، فإن مرجعية الجامعة قامت طويلاً على صيغة تفاوض عربي موحد مع إسرائيل. ولكن الواقع مضى على خلاف ذلك، فذهب الفلسطينيون وحدهم بدءاً من أوسلو في 1993 وقامت الأردن بالخطوة نفسها، وهو ما اضطر سوريا للذهاب وحدها أيضاً، ولكن بعد أن انجرت لصراعات مريرة مع منظمة التحرير الفلسطينية. ومن اللطيف أن نلاحظ أن سوريا كانت الدولة التي صاغت عدداً كبيراً من القرارات ذات الصلة ببناء مرجعية عربية فيما يخص الشأن الفلسطيني. ولفترة طويلة كانت تلك المرجعية محترمة. وبدأت المشكلة تحتدم طارحة للتساؤل استمرار الجامعة العربية من عدمه عندما بدأت دول عربية رئيسية تتململ وتتخذ مواقف مخالفة بوضوح للمرجعية العربية العامة. وعلى سبيل المثال، فإن زيارة الرئيس السادات للقدس عام 1977 ثم توقيعه لاتفاق كامب ديفيد عام 1978 كان خروجاً سافراً وانتهاكاً قاسياً للمرجعية العربية التي ساهم هو في صياغتها. وبالمقابل فإن سوريا لم تتقيد بالمرجعية العربية إلا عندما كان ذلك لمصلحتها. وعلى سبيل المثال، فهي قامت بغزو لبنان عام 1976 ثم قبلت اضفاء طابع عربي عام على ما كان في الواقع قراراً فردياً في صفقة مع مصر والسعودية فيما عرف بمؤتمر قمة الرياض السداسي خلال العام نفسه. وفي ظروف غياب تحالفات قوية توفر قاعدة متينة لهدف بناء توازن استراتيجي مع إسرائيل، ذهبت سوريا للتحالف مع إيران، وهو ما تم بالمخالف لأبسط قواعد المرجعية العربية، حيث تضمن هذا الموقف بداهة إضراراً شديداً ببلاد عربية أخرى وتحديداً العراق. أشد الأزمات العربية وقعت في ظل صراعات شديدة بين مرجعيات متضاربة وبمناسبة مبادرات تقترح مرجعيات جديدة. وبوجه عام، فالنظام العربي يظهر مقاومة شديدة أولية لمبادرات جديدة فيما يتعلق بالمرجعية، ولكنه يميل بعد ذلك لاستيعابها بهدوء. وضمن هذا السياق، انهار مؤتمر قمة فاس عام 1981 بعد خمس ساعات نظراً لمبادرة الأمير فهد التي اقترحت حلاً سلمياً للصراع مع إسرائيل. ولكن تم استئناف القمة عام 1982 ونجحت بعد أن وافقت سوريا على المبادرة نفسها بتعديلات طفيفة، وتأسست مرجعية عربية جديدة تماماً كانت مرفوضة في النظام العربي. ومقابل وضوح المرجعية، فإن رغبة المخالفين في التماشي ولو الشكلي مع التيار الرئيسي في السياسة العربية حتى لو لم يطبقوا حرفاً واحداً من القرارات المرجعية كان في الإجمال وفي ظروف العالم العربي عاملاً إيجابياً وليس سلبياً. وبوسعنا أن ندين تبويس اللحى كما نشاء، إلا أنه ساعد على منع انهيار الجامعة. وعلى سبيل المثال، فقد استمرت الجامعة بعد أن انسحب الرئيس ناصر من الرباط عام 1969، وذلك بفضل الجهود التي قامت بها بلاد خليجية وتحديداً الإمارات والكويت لمصالحته. وبوجه عام فإن شعرة معاوية هذه كانت القوة الوحيدة الموازنة لقوة الدفع نحو الانهيار بسبب تناقض المصالح السياسية والاستراتيجية. ضخامة المصالح المرتبطة بالجامعة والقمة وبموضوعات الخلاف هي بالطبع العامل المحدد لكل سلوكيات الدول العربية كأي دول في الخارج. وبوجه عام كلما كانت هذه المصالح جوهرية ومباشرة، صار من الأصعب اقناع الدولة بالتهدئة أو القبول بالموقف العربي العام أو بالحلول الوسط. والعكس صحيح، فكلما نضجت مصالح تقترب من منطقة التراضي العربي العام، يمكن التوصل إلى تسويات ناجحة للخلافات والأزمات. ولم يكن ذلك واضحاً تماماً دائماً، لكنه عمل بطريقة تكاد تكون تلقائية. وحتى عندما يحتاج الأمر لحافز معين (زيادة الدعم المالي أو الاقتصادي مثلاً) فالأصل هو نضوج مصالح حقيقية. وعلى سبيل المثال، وافقت سوريا على قرارات قمة عمان عام 1987، لأنها كانت فعلاً تخشى من انتصار إيراني كاسح بغض النظر عن تحالفها مع طهران. وكانت حققت ما تبغيه وهو إضعاف نظام صدام حسين. وبالمقابل فإن مصر في ظل مبارك طبقت سياسة ناجحة للعودة إلى الجامعة العربية من دون تنازلات فيما يتعلق بانتهاك مرجعية الجامعة، لأن غالبية كبيرة من الدول العربية توصلت لحتمية البحث عن تسويات سياسية مع إسرائيل، وهو ما جعلها توافق على مبادرة الأمير فهد عام 1982 ثم المبادرة العربية عام 2002. وأخيراً فإن توفر دولة أو أكثر مصممة على القيام بالوساطات اللازمة لحل النزاعات كان من العوامل الرئيسية للنجاح في التوصل لوفاق في منظومة الجامعة. وبطبيعة الحال فإن الشرط الرئيسي لنجاح وساطات دول عربية معينة ألا تكون طرفاً مباشراً في الصراع أو الأزمة. ولذلك لعبت دول الخليج العربي وتحديداً الإمارات والكويت دوراً ناجحاً فيما يتعلق بحل الأزمات بين الدول العربية. وكنا أشرنا لموقف الدولتين لمصالحة ناصر عام 1969 وتكررت جهود المصالحة مع سوريا هذه المرة عام 1987 وقبيل مؤتمر عمان. ثم تحقق الشرط نفسه في واحد من أكثر المؤتمرات أهمية وسُمي مؤتمر قمة الانتفاضة عام 1988 بفضل الدور الايجابى لدول الخليج. ماذا يعني ذلك كله بالنسبة لسيناريوهات ما بعد قمة دمشق؟ لو طبقنا المعايير نفسها، يمكننا أن نقرر بوضوح أن أزمة الصراع حول لبنان لن تؤدي إلى انهيار الجامعة العربية. بل إن اللغة التي تمت صياغة البيان الختامي بها تؤكد بوضوح على رغبة الدول العربية في استمرار الجامعة وإن بحضور ضعيف وتأثير أقل مما يضمن لها الانطلاق. ولكن ذلك لا يعني أن الانشقاق الذي برز في سياق الإعداد لهذه القمة سينتهي بسهولة. فالمصالح المتضاربة جوهرية. وبالنسبة لسوريا، فإن علاقتها بلبنان و"حزب الله"، تبدو لها أهم من كل علاقاتها بكافة الدول العربية الأخرى. ولكن بالمقابل، المرجعية واضحة بصورة قطعية. فالجميع تقريباً يريد عودة لبنان دولة مستقلة ذات سيادة وإنْ متناسقة مع سوريا. وما يحدد مسار العلاقات والمواقف بعد القمة هو إمكانية قيام دول عربية أخرى بالوساطة لحل الأزمة. فقد يستمر ويتدهور الشرخ بين سوريا من ناحية وكل من مصر والسعودية من ناحية أخرى وقد يحدث العكس ونضع القضية وراء ظهرانينا بعد أن تتم استعادة المؤسسات الدستورية للبنان.