فرنسا بين سياسة "المقعد الكامل" في "الناتو"... و"المقعد الفارغ" في أولمبياد بكين!



خلفيات إعلان فرنسا العودة إلى شغل عضويتها الكاملة في حلف "الناتو"، والتجاذب الفرنسي- الصيني حول دعوات الحضور والغياب إلى أولمبياد بكين، والآفاق السياسية التي تفتح عليها الانتخابات التشريعية الإيرانية، موضوعات ثلاثة نعرض لها ضمن جولة سريعة في الصحافة الفرنسية.

فرنسا... والعودة الأطلسية:
 صحيفة لوموند اعتبرت في افتتاحية لها أن إعلان الرئيس نيكولا ساركوزي عن نية بلاده العودة لسياسة "المقعد الكامل" في حلف شمال الأطلسي "الناتو" مقابل تسهيل واشنطن مهمة استكمال بناء آليات دفاعية أوروبية مستقلة، يشكل تراجعاً صريحاً عن تقليد أرساه الرئيس الأسبق ديغول حين انسحب سنة 1966 من قيادة الحلف، معتبراً أن العضوية الكاملة فيه تنال من استقلالية السيادة الوطنية الفرنسية. ولكن على رغم حدة النقد الذي وجهته المعارضة الاشتراكية ووسائل الإعلام لساركوزي في هذا الصدد، إلا أن الرئيس السابق جاك شيراك سبقه إلى خرق هذا الإرث الديغولي حين بدأ خطوات تلك العودة الأطلسية القوية ابتداءً من عام 1995. والواقع أن القضية، تقول لوموند، أكثر تعقيداً من مجرد كيل التهم لخطوة سيد الأليزيه، بهذه الطريقة التبسيطية. فكل ما قام به ساركوزي هو إضفاء طابع رسمي، على أمر واقع، بات قائماً منذ أكثر من عقد من الزمن. وما دفعه إلى ذلك هو قناعة راسخة لدى الطبقة السياسية الفرنسية، مؤداها أن أوروبا لن يكون في مقدورها لعب دور مؤثر على المسرح العالمي ما لم تكن لها ترتيبات دفاعية خاصة، وذات شأن. والمشكلة المُعيقة لبعث مثل هذه الترتيبات الدفاعية الملحة أن شركاء فرنسا الأوروبيين ما زالوا متعلقين بقوة بالحلف الأطلسي، إضافة إلى موقف واشنطن المسبق من أي ترتيب دفاعي أوروبي مستقل. ولئن كان خطاب ساركوزي في قمة "الناتو" في بوخارست قد هدأ من مخاوف الأميركيين، بتأكيده أن الخطط الدفاعية الأوروبية لن تكون متعارضة مع التزامات دول القارة تجاه الحلف الأطلسي، فإن ما صدر من تطمينات مقابلة في خطاب الرئيس بوش في نفس القمة ليس كافياً وحده. فعلى ساركوزي، أن ينال من واشنطن ضمانات، في هذا الصدد، لا أن يكتفي بمجرد تصريحات فضفاضة وغير محددة، يطلقها بوش كيفما اتفق. وعن مثل هذه المقايضة الضمنية، كتب ميشل لبيناي افتتاحية في "باري نورماند"، مشيراً إلى أن الاعتراض الأميركي على أي تغريد دفاعي أوروبي مستقل مسألة تحتاج إلى ما هو أكثر بكثير من خطوات ساركوزي الحالية. والأخطر من هذا كله، أن الرئيس الفرنسي لعب سلفاً أقوى الأوراق في يده، وهي عودة بلاده لعضويتها الكاملة في الحظيرة الأطلسية. ومن ثم لم يعد بيده شيء آخر يساوم الأميركيين عليه.

أولمبياد بكين... وشبح المقاطعة:
آلان ديهامل كتب افتتاحية في "نيس ماتان"، خصصها للتجاذب الفرنسي- الصيني حول الألعاب الأولمبية وأحداث التبت، وهو تجاذب سيبلغ ذروته غداً (الاثنين) بوصول الشعلة الأولمبية إلى باريس. ودعا الكاتب الساسة الأوروبيين إلى تنبيه نظرائهم الصينيين إلى أن حضورهم لحفل افتتاح أولمبياد بكين في شهر أغسطس المقبل، ليس مسألة مضمونة، إذا لم تبذل الصين جهوداً حثيثة لتغيير سجلها في مجال حقوق الإنسان. وانتقد ديهامل اقتصار الزعماء الأوروبيين خاصة على مجرد المطالبة الخجولة لبكين بفتح قنوات حوار مع الزعيم التبتي "الدالاي لاما"، وطالب ساركوزي خاصة، الذي سيكون في منصب الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي في شهر أغسطس، بالإعلان عن نيته عدم حضور حفل افتتاح الأولمبياد واتباع سياسة "المقعد الفارغ"، ما لم تنجز الصين شروطاً معينة في مجال حقوق الإنسان. أما هذه الشروط نفسها فقد بسطتها مجلة "لونوفل أوبسرفاتور" ونسبتها إلى كاتبة الدولة الفرنسية لحقوق الإنسان "راما ياد"، وفي مقدمتها: وضع حد للتدخل العنيف ضد السكان، وإطلاق سراح السجناء السياسيين، وتسليط المزيد من الضوء على ما يجري بالتبت، إضافة إلى ضرورة فتح حوار مع "الدالاي لاما". أما صحيفة لوموند فقد عنونت افتتاحيتها ليوم أمس: "بكين والروح الأولمبية"، ولفتت في مستهلها إلى غضب الصين من التظاهرات المناوئة لها، التي تعرفها باريس هذه الأيام بمناسبة مرور الشعلة الأولمبية بها، خاصة أن عمدة المدينة رفع لافتة ضخمة على فندق المدينة تؤكد تعلقها بحقوق الإنسان "في كل مكان عبر العالم"، معتبراً الرسالة المتضمنة في هذه اللافتة موجهة كـ"لفتة صداقة لجميع الشعوب، وخاصة لشعب التبت". وطلبت لوموند من الزعامات الصينية تعويد نفسها على مثل هذه الاحتجاجات من الآن وحتى انطلاق الألعاب الأولمبية، وذلك لأن الصين حين أعلنت عن ترشيح عاصمتها لهذا الحدث الرياضي العالمي، كانت تعرف حجم الجذب الإعلامي المترتب عليه، كما تعهدت هي نفسها بتحسين سجلها في مجال حقوق الإنسان، تماشياً مع مقتضيات "الروح الأولمبية" المؤكدة على مبدأ الإعلاء من شأن "الكرامة الإنسانية". وانتقدت الصحيفة ما صدر عن سلطات بكين من اتهامات لباريس بالخروج عن "الروح الأولمبية" مؤكدة أن الصينيين هم الأقرب إلى الخروج عن تلك الروح، بالنظر إلى أحداث التبت الحالية، والطريقة التي تعاملوا بها معها. كما انتقدت الصحيفة الزعامات الأوروبية، وقيادات اللجنة الأولمبية الدولية، في سعيهم الدؤوب إلى إطلاق تصريحات حول دعمهم لحقوق الإنسان، دون تحريك ساكن على أرض الواقع تجاه الصين.

الغرب وتعقيدات المشهد الإيراني:

في صحيفة لوفيغارو كتب جورج مالبرينو مقالاً بعنوان: "على الغرب أن يضع أيضاً أحمدي نجاد في حسابه"، مشيراً إلى أن العواصم الغربية تلقت نبأ غير سار، مؤداه أن الانتخابات التشريعية الإيرانية أشارت بقوة إلى احتمال بقاء الرئيس محمود أحمدي نجاد في سدة الرئاسة في رئاسيات العام المقبل. وعلى ما يبدو أنه سيحقق مكاسب سياسية ذات دلالة خلال الشوط الثاني من التشريعيات المقرر في آخر أبريل الجاري، حتى لو أقدم بعض حلفائه "المحافظين" على التخلي عنه والتحالف مع المعارضة الإصلاحية. فقد تمكن نجاد من خلق شبكة معقدة من التحالفات والولاءات السياسية عبر المحافظات الإيرانية، وهي نقطة قوة يفتقدها معظم منافسيه المحتملين مثل عمدة طهران محمد غاليباف، كما يعتبر الإيرانيون بعضهم الآخر "مثقفين أكثر من اللازم"، مثل المفاوض النووي السابق علي لاريجاني. كما تمكن نجاد من تهميش أو تقسيم صفوف معظم الرموز التاريخية المنافسة من رجال الثورة، وقيادات الحرس الثوري، وأسس نوعاً من المركزية لرجال "الباسدران"، ولرموز الحركات المهدوية المؤمنة بعودة الإمام الثاني عشر، عند الشيعة. ولذا -يقول مالبرينو- لم يقدم الإيرانيون على معاقبة نبرة نجاد الحادة ضد الغرب، بل لقد ازداد التقبل لما تعرضوا له من دغدغة المشاعر القومية بخصوص البرنامج النووي، وعلى نحو بات معه أي سياسي يعلن معارضته لهذا البرنامج يجازف بالتعرض إلى "موت سياسي" في أوساط قطاعات واسعة من الرأي العام الداخلي. وقلل الكاتب من احتمال تأثر الزعامات في طهران بسياسة العقوبات الغربية، مشيراً إلى أن على العواصم الغربية أن تعرف كيف ستواجه إيران، في ضوء هذه المعطيات. وهو سؤال صعب، قد يقتضي التفكير في تصعيد العقوبات، أو حتى تصعيد سقف المقايضات السياسية، بين نظام الملالي الإيراني و"الشيطان الأكبر" الأميركي.

إعداد: حسن ولد المختار