بوجود الديمقراطيتين العريقتين الهندية والسريلانكية، وعودة الديمقراطية إلى باكستان ونيبال مؤخراً، وشروع "بوتان" أواخر الشهر الماضي في إجراء أول انتخابات برلمانية في تاريخها، تبدو منطقة جنوب آسيا لأول مرة خالية من الأنظمة الشمولية. طوال عقدين من الكتابة في الشأن الآسيوي لم أكتب سوى مرتين عن "بوتان"، كونها بلاداً معزولة قلما تشهد حدثاً يستدعي التحليل. وكانت المرة الأولى هي في الثمانينيات وبمناسبة زيارة نادرة لملكها الشاب "جيغمي وانغتشوك" إلى البحرين والكويت. وقتها لم تكن المعلومات فقط هي الشحيحة عن "بوتان"، وإنما أيضاً سبل الوصول إليها بدليل أن كل محاولاتي في السبعينيات لزيارتها، فشلت بسبب الموقع الجغرافي الشاذ لبلد أشبه ما يكون وضع عاصمتها "تيمبو" بحفرة عميقة في الأرض ارتفعت من حولها الجبال الشاهقة. ولهذا السبب ولأسباب أخرى كتبت مقالي الأول عن بوتان معتمداً على معلومات مثيرة نشرها حينئذ الصحافي البريطاني "كريستوفر توماس" في أعقاب نجاحه في الوصول إلى "تيمبو" وكتابته تقريراً حول هذه البلاد المغلقة، والتي يعني اسمها "الأراضي الشاهقة"، وفي رواية أخرى "نهاية حدود التبت"، باعتبارها محصورة ما بين جارين عملاقين (الهند والصين) فيما حدودها مع الأخيرة هي الحدود الغربية للتبت. ولهذا السبب، ولأسباب تاريخية ودينية وحروب من أجل النفوذ، نجد للتبت ذكراً متكرراً في تاريخ بوتان القديم. أما في التاريخ المعاصر لبوتان، فنجد أيضاً ذكراً للتبت، إذ لولا قيام بكين في أواخر الخمسينيات بضم التبت إلى أراضيها، وما أججه ذلك من هواجس لدى البوتانيين حول ما قد تقدم عليه بكين في المستقبل، لظلت بوتان مجهولة للعالم ومستمرة في عزلتها خوفاً من انتهاك الغرباء لعذريتها وثقافتها. فالخوف من الجار الشيوعي، هو الذي دفع بوتان إلى الانفتاح على الجار القوي الآخر في نيودلهي، وتوثيق الروابط معه، لتغدو تلك الروابط حجر الزاوية في سياسات بوتان الخارجية والسند الرئيس لاقتصادها من خلال المساعدات الهندية القيمة. وهذا يقودنا إلى الحديث عن تاريخ الروابط الهندية- البوتانية، والتي شهدت مداً وجزراً في الماضي، لتستقر في العصر الحديث. حيث تذكر المصادر التاريخية أن انقسامات دينية وإثنية وثقافية اجتاحت بوتان في القرن 18، الأمر الذي شجع البوتانيين على طلب المساعدة من حكام ولاية بيهار الهندية المجاورة، وهؤلاء بدورهم طلبوا مساعدة شركة الهند الشرقية، فقامت الأخيرة بتثبيت الحدود البوتانية- الهندية وفق معاهدة وقعت عام 1774، لكنها تعرضت مراراً للخرق في صورة قضم البريطانيين للمزيد من الأراضي البوتانية وإلحاقها بإمبراطورية الهند البريطانية، وهذا ما أدى لاحقاً إلى ما عرف بحرب "الدوار" (الحرب حول حائط حدودي في البنغال ما بين عامي 1864-1865). في هذه الحرب خرجت بوتان مهزومة، وفرض عليها توقيع معاهدة حماية وصلح بينها وبين لندن، التي اعترفت في عام 1910 بيوجين وانغتشوك ملكاً لبوتان، وكان الكهنة البوذيون ورسميو الدولة وأعيان البلاد قد اختاروا الأخير ملكاً في عام 1907 تقديراً لدوره في توحيد البلاد وإنهاء حروبها الأهلية. وكان ضمن ما كتبه "كريستوفر توماس" وقوبل بالدهشة، سطوراً حول شخصية ملك بوتان الأربعيني "جيغمي وانغتشوك"، الذي "رغم امتلاكه لزمام السلطة ومقدرات الأمور وخضوع شعبه له، ورغم شبابه وثقافته الغربية المستمدة من الدراسة في الجامعات البريطانية، فإنه يفضل العيش في منزل خشبي متواضع ليس به جهاز تلفزيون، ولا تقف خارجه سيارة "مرسيدس". وبحسب الصحافي البريطاني "يبرر الملك سلوكه هذا بأنه ليس عدلاً أن يعيش الحاكم في ترف بينما رعاياه فقراء. مضيفاً "أنه سوف يقتني التلفزيون وسيركب المرسيدس حينما يصبح كل مواطن في بلده قادراً على امتلاكهما أو التمتع بخدماتهما". وإلى أن يحين ذلك الوقت، فإن الملك يتنقل في بلاده التي تتساوى في المساحة مع سويسرا (18000 ميل مربع)، ويتفقد رعاياه ( ثلاثة أرباع المليون)، ويزور مكاتب الدولة ممتطياً حصانه، فيما يقضي أوقات فراغه في ممارسة لعبة كرة السلة أو في القراءة. إلى ما سبق، خصص الصحافي البريطاني جزءاً من تقريره للحديث عما وصفه في حينه بهاجس صراع ثقافي وعرقي يلوح في الأفق، فقال "إن هذا الهاجس رغم أنه لم يتحول بعد إلى صورة الاصطدام الدموي وإفناء الآخر المنافس كما هو الحال في أفريقيا السوداء، إلا انه في طور التفاقم المنذر بالخطر"، مضيفاً "أن المشكلة تكمن في الود المفقود ما بين أهل الشمال البوذي الممسك بالسلطة، وأهل الجنوب الهندوسي المنحدر من أصول نيبالية اخترقت الحدود عبر الحقب المتتالية منذ أوائل القرن العشرين بحثاً عن العمل، فتوطنت وتكاثرت حتى باتت تشكل أغلبية عددية". لكن كيف تعامل الملك في حينه مع هذه المعضلة الناجمة من تخوف الشماليين من احتمالات طغيان العنصر النيبالي على بوتان وتغيير هويتها، وشكوى الجنوبيين الدائم من عدم المساواة في الحقوق وعدم امتلاكهم لأي دور في إدارة شؤون البلاد رغم كثافتهم العددية؟ هو لم يوزع بطبيعة الحال السلاح على الشماليين لإراقة دماء الجنوبيين وتصفيتهم ودحرهم إلى ما وراء الحدود مثلما حدث مراراً في أفريقيا، كما أنه لم يلجأ إلى الخطب والشعارات النارية والتحريض ضد الجنوبيين وتوعدهم بالعقاب، وإنما مارس الضغوط على الطرفين من أجل التعاون والاندماج، ولا سيما الاندماج القائم على المصاهرة العائلية، والذي اعتقد الملك جازماً أنه الحل الأمثل لخلق أجيال جديدة غير مشبعة بمفاهيم وعداوات عرقية أو طائفية. فحينما يكون المواطن بوذياً من الشمال وأخواله هندوساً من الجنوب أو العكس، فمن المؤكد أن تنتفي تلقائياً نزعة اضطهاد الآخر أو إلغائه، لأن في ذلك اضطهادا وإلغاء لجزء من تكوينه الاثني والمذهبي. أما مناسبة العودة اليوم للحديث عن بوتان، فهي وفاء ملكها لوعد قطعه على نفسه بإجراء إصلاحات سياسية، من دون أن يكون واقعاً تحت ضغوط داخلية أو خارجية – أي على عكس الأحوال في التبت المجاورة تماماً- ووسط مخاوف داخلية من أن يؤدي تراجع نفوذ الملك لصالح برلمان منتخب إلى إقحام البلاد في صراعات لا قدرة لها على تحملها، أو فتح الباب لتدخلات خارجية في الشؤون السياسية المحلية عبر أحزاب محلية لها روابط خارجية. وقرار الملك هذا يمكن إدراجه ضمن القرارات الغريبة لملوك هذه البلاد التي تعكس زهداً في الحكم وفي مباهج الحياة على نحو ما سيأتي. "بوتان" عرفت مجلساً تشريعياً صورياً في عام 1953، بأمر عاهلها الأسبق " جيغمي دورجي وانغتشوك"، وذلك بهدف تطوير الحياة السياسية. وفي عام 1965 شكل الأخير مجلساً ملكياً استشارياً، لتتلو هذه الخطوة إصلاحات أخرى في العام نفسه شملت تشكيل مجلس للوزراء. وبعيد انضمام "بوتان" إلى الأمم المتحدة في عام 1971 ، توفي الملك "جيغمي دورجي"، تاركاً الحكم لابنه ذي السنوات الستة عشر "جيغمي سنجي وانغتشوك"، الذي سبق الحديث عنه، والذي يعزى إليه كل الجهود المبذولة منذ ثمانينيات القرن المنصرم لصهر الشماليين والجنوبيين في هوية وطنية واحدة، والحيلولة دون انصراف الجنوبيين الهندوس إلى العصيان المدني والحرق أو الاعتداء على الممتلكات العامة مثلما حدث لبعض الوقت. ومما يحسب للملك الشاب قراره الطوعي في عام 1998 بإجراء إصلاحات سياسية تضمنت التخلي عن الكثير من صلاحياته لمجلس وزراء قادر على محاسبته بأغلبية الثلثين من الأصوات. ويحسب له أيضاً إبداله دستور البلاد الخمسيني القديم بدستور عصري عام 2005 ، والأخير تم الاستفتاء الشعبي حوله وأُقر في ديسمبر 2005 . وشهد شهر ديسمبر من العام نفسه حدثاً لا يقل غرابة هو إعلان الملك فجأة قراره بالتخلي عن العرش لصالح ابنه في عام 2008 أي بالتوازي مع إجراء أول انتخابات برلمانية حرة في تاريخ البلاد. يرى بوتانيون كثر ممن قابلتهم وسائل الإعلام، أنهم رغم تخوفهم من هذه الإصلاحات التي قد تغير ما نعموا به طويلاً من سلام ووئام وعزلة، فإنهم سوف يقبلونها فقط لأنها رغبة ملكية، في مثال جيد للإصلاح المتأتي من الأعلى.