ارتفع عدد القتلى من الجنود الأميركيين في الأيام الأخيرة من شهر مارس المنصرم، ليبلغ ذلك الرقم رسمياً 4000 قتيل. وقد تزامنت حادثة مصرع الجندي رقم 4000 في تلك السلسلة، مع تصاعد أشد موجة عنف عرفها العراق طوال الستة أشهر الأخيرة، مما أثار السؤال مجدداً حول مدى فعالية استراتيجية زيادة عدد القوات التي أعلن عنها الرئيس بوش في يناير من عام 2007 وشرع في تطبيقها فعلا. وكان محور موجة العنف الأخيرة هذه، هو الجهود التي بذلتها حكومة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، والتي تسيطر عليها الطائفة الشيعية، وذلك لسحق المليشيات الشيعية المنافسة والتي تدير عملياتها بعيداً عن سيطرة الجيش، في كل من مدينتي بغداد والبصرة. وقد استهدفت العملية العسكرية الحكومية الأخيرة، وبشكل أساسي، مليشيات "جيش المهدي" التابعة لمقتدى الصدر. وكان "الصدر" قد أعلن في التاسع والعشرين من شهر أغسطس من العام الماضي، عن التزام مليشياته بوقف إطلاق النار المعلن، ووضع حد للمواجهات العسكرية مع القوات الأميركية والمليشيات السنية الناشطة في منطقة بغداد الكبرى. ويذكر أن إعلان "الصدر" عن وقف إطلاق النار، كان قد تزامن مع وصول الدفعة الأولى من الجنود الأميركيين الإضافيين الذين تم إرسالهم إلى العراق، وفقاً لاستراتيجية زيادة عدد القوات التي بدأ تطبيقها حينئذ. وساد الاعتقاد حينها أن "الصدر" لم يكن يرغب في خوض مواجهة عسكرية دامية، ربما تكلفه الكثير مع القوات الأميركية، إضافة إلى حاجة مليشياته لبعض الراحة والتقاط الأنفاس وإعادة رص صفوفها وتسليح مقاتليها. وعلى الرغم من الإعلان عن وقف إطلاق النار، إلا أن بعض عناصر المليشيات الصدرية واصلت شن هجمات متفرقة هنا وهناك ضد خصومها من أعضاء المليشيات الأخرى، لاسيما في مدينة البصرة التي لم تكن حينها ضمن النطاق الجغرافي لتطبيق استراتيجية زيادة عدد القوات المذكورة. وتكتسب البصرة والضواحي المحيطة بها، أهمية خاصة من وجود الميناء العراقي الرئيسي فيها، علاوة على كونها من أغنى المحافظات العراقية بالنفط. ويذكر أن القوات البريطانية التي تمكنت من احتلال البصرة مباشرة في أعقاب انهيار نظام صدام حسين في أبريل من عام 2003، عجزت عملياً عن بسط سيطرتها الكاملة عليها. وما أن تحقق الانسحاب البريطاني من المدينة مؤخراً في ديسمبر من العام الماضي، حتى سقطت البصرة فريسة لعدد من المليشيات الشيعية المتصارعة والمتنافسة فيما بينها، بما فيها عصابات المجرمين. وهذا ما دعا حكومة نوري المالكي إلى شن عملية عسكرية استهدفت تحرير البصرة من قبضة المليشيات والمجموعات الإجرامية على حد سواء. يذكر أن المالكي لم يطلع الأميركيين على اعتزامه شن حملته الأخيرة هذه. وللأسف فقد بدت حكومته أكثر ضعفاً مما كانت عليه القوات البريطانية، من ناحية عدم قدرتها على بسط نفوذها على المليشيات والجماعات المتناحرة فيما بينها هناك. وفي وقت لاحق من سير العمليات، طلبت حكومة نوري المالكي من القوات الأميركية والبريطانية تقديم الدعم الجوي لجنودها، وهو الطلب الذي قدم بتاريخ الرابع والعشرين من شهر مارس المنصرم. لكن المؤسف أن موجة العنف قد تصاعدت باطراد، ولم يعد في وسع حكومة المالكي لجمها، رغم الدعم الذي قدمته لها قوات التحالف الدولي. ولم يعلن مقتدى الصدر عن وقف جديد لإطلاق النار في الحادي والثلاثين من مارس الماضي، إلا عقب لقاءٍ جمع بين مندوبيه وبعض القيادات السياسية الشيعية في إيران، مع استمرار تمسكه برفض نزع أسلحة مقاتلي "جيش المهدي" التابع له. وفي هذا الموقف إهانة ما بعدها إهانة لنوري المالكي، إضافة إلى ما يعنيه من إضعاف لحليفه الرئيس بوش! ومهما يكن، فقد جاء تصاعد موجة النزاع الشيعي- الشيعي الأخيرة هذه، بمثابة مفاجأة كبيرة لمؤيدي استراتيجية زيادة عدد القوات، والذين طالما تفاخروا خلال الأسابيع القليلة الماضية بـ"النجاح الباهر" الذي حققته الاستراتيجية، مستنتجين بذلك وضع حد للحرب الأهلية، ودنو العراق من تشكيل حكومته النيابية الديمقراطية حقاً! لكن، وياللأسف، ها قد جاء تصاعد موجة العنف الأخيرة بمثابة تذكير جديد، بأن الانقسامات الطائفية والعرقية والدينية في هذا البلد، هي أعمق وأخطر مما يتصور الكثيرون. فإلى جانب المواجهات الشيعية- الشيعية، لا بد من التنبيه إلى أن مجموعات البعثيين السابقين، وكذلك جماعات المتمردين السنّة التي تألفت منها فرق "الصحوة السنية"، هي جميعها في مستوى جيد للغاية من التسليح، وتنفق عليها الولايات المتحدة إنفاقاً سخياً، على أمل أن تساندها في قتالها ضد تنظيم "القاعدة" في بلاد الرافدين. والواضح أن لهذه الجماعات أجندتها الأخرى، المتمثلة في استعادة سيطرتها السنية على محافظات غربي العراق، إلى جانب مناطق بعينها في بغداد الكبرى. وفي غضون ذلك تظل احتمالات نشوب نزاعات ومواجهات عربية- كردية حول كركوك، عالية جداً هي الأخرى، مضافاً إليها بالطبع استمرار التدخل العسكري الخارجي التركي ضد مقاتلي "حزب العمال الكردستاني" في شمالي العراق. وعلى خلفية هذه التطورات مجتمعة، يتوقع للجنرال ديفيد بترايوس وزميله السفير رايان كروكر الحضور إلى واشنطن في الثامن من أبريل الجاري، بهدف عرض تقييمهما لسير الإنجازات العسكرية والأمنية التي أسفرت عنها استراتيجية زيادة عدد القوات، إلى جانب تناولهما لما يجب القيام به في سبيل المحافظة على هذه الإنجازات. ومما يتوقعه المراقبون والمحللون، أن يوصي كلاهما بتأجيل خطة خفض عدد القوات، خاصة تلك الرامية إلى سحب القوات الإضافية التي تم نشرها وفقاً للاستراتيجية المذكورة. وفي هذا التراجع عن تنفيذ خطط الانسحاب المعلنة، ما يعيد العراق إلى محور الخلاف الحزبي داخل الكونجرس، إلى جانب جعل العراق قضية محورية في مسار الحملة الانتخابية الرئاسية الجارية الآن. ويجب القول أيضاً إن التقدم المحرز، والذي طالما تباهى به بوش في العام الماضي، قد تبخر الآن بسبب تقديم القادة العراقيين لانتماءاتهم ومصالحهم الطائفية على تماسك دولتهم واستقرارها أمنياً وسياسياً.