انتهت القمة الأكثر إثارة للجدل والمخاوف في تاريخ النظام العربي الرسمي منذ قمة القاهرة عام 1990. وما يجمع القمتين هو أنهما عقدتا في ظل انقسام عربي حادٍ بشأن أزمة الغزو العراقي للكويت عام 1990، وبخصوص الأزمة اللبنانية ودور سوريا فيها عام 2008. غير أن ثلاثة فروق أساسية بين أوضاع المنطقة في 1990 وفي 2008 تجعل الانقسام الراهن أشد خطراً وأكثر قابلية للتحول إلى حرب باردة عربية إذا لم يوضع له حد عبر حوار جاد وصريح. في 1990 ظهر الخلاف على كيفية معالجة الغزو العراقي للكويت في الوقت الذي كان النظام العربي الرسمي يتجه إلى التعافي منذ منتصف الثمانينيات. كانت الأجواء مبشرة بدرجة أو بأخرى، على النحو الذي دفع معدي "التقرير الاستراتيجي العربي" الصادر عن مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام إلى التبشير بحقبة تشهد وقف التدهور الذي حدث في النظام العربي اثر اتفاقية كامب ديفيد 78 -1979. والفرق هنا أن الخلاف على كيفية معالجة الأزمة اللبنانية حدث في الوقت الذي كان النظام العربي الرسمي يتجه إلى حالة تدهور جديدة بسبب الانقسام الذي أخذت عوامله تتراكم منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003. ومن الطبيعي أن يكون الخلاف الحاصل في أجواء منقسمة أصلاً أكثر خطراً من آخر يحدث في ظروف شهدت تطورات إيجابية باتجاه رأب تصدعات وترميم أخرى. هذا عن الفرق الأول. أما الفرق الثاني فهو أنه في 1990 كان الخلاف مركزاً على مسألة واحدة ومحددة وهي الغزو العراقي للكويت، في حين أن الخلاف على الأزمة اللبنانية في 2008 يرتبط ارتباطاً وثيقاً ويتداخل مع خلافات أخرى تبدأ بالقضية الفلسطينية ولا تنتهي بالعلاقة مع إيران. وبديهي أن الخلاف المحدد ذا الحدود الواضحة يكون أقل خطراً من آخر لا حدود له كونه متداخلاً مع أزمات كلها ساخنة على نحو يجعل أي انفجار في إحداها مهدداً بتحولها إلى شرارة قابلة لأن تشعل المنطقة. يبقى الفرق الثالث، الذي لا يقل أهمية، وهو أن الخلاف عام 1990 بدأ عربياً بالكامل، وأنتج تدخلاً أجنبياً عسكرياً كثيفاً لكنه ليس عميقاً لأنه ارتبط بهدف محدد وواضح وهو تحرير الكويت. وليس أدل على ذلك من أن الولايات المتحدة اضطرت للتخلي عن رغبتها في مواصلة الحرب حتى إسقاط نظام صدام حسين عندما رفضت الدول العربية التي شاركت في تلك الحرب ذلك وأصرت على عدم تجاوز الهدف المحدد المتفق عليه. أما اليوم، فلا الأزمة محض عربية، ولا الأدوار الرئيسية عربية. وإذا صح وصف الأزمة اللبنانية بأنها ذات طوابق ثلاثة عربي وإقليمي ودولي، فكذلك الحال بالنسبة إلى مجمل الأزمات الساخنة المرتبطة بها من أزمة البرنامج النووي الإيراني والأزمة العراقية إلى الأزمة الفلسطينية. فالفاعلان الرئيسيان في هذه الأزمات هما أميركا و(الغرب عموماً) وإيران. والصراع هو، في جوهره، بين مشروعين أميركي وإيراني يهدف كل منهما إلى الهيمنة على المنطقة ولكن بشكل مختلف بطبيعة الحال. وبمقدار ما كانت أزمة 1990 بين أطراف عربية في المقام الأول، يبدو دور هذه الأطراف في أزمة 2008 أقل من حيث أنها نتيجة فشل مشروع "الشرق الأوسط الكبير" الذي حاول "المحافظون الجدد" في واشنطن فرضه. فقد فتح هذا الفشل الباب أمام إيران، باعتبارها المستفيد الأول من حرب 2003. لتوسيع نفوذها بعد أن أصبح العراق معبراً أمام هذا النفوذ وليس حاجزاً أمامه. وإذا كان المشروع الأميركي قد فشل في تغيير المنطقة، فقد زلزلها وأربك تفاعلاتها وأتاح لإيران فرصة تاريخية للإمساك بأوراق عربية وإقليمية مؤثرة. وفي سياق هذا التحول المرتبك في المنطقة، أخذ الخلاف الذي كان محدوداً بين دول عربية معتدلة وأخرى ترفع شعارات راديكالية يزداد. وإذ باتت سوريا مستهدفة، بدءاً من وجودها في لبنان، فقد لجأت إلى مزيد من الارتباط بإيران. وحين تصبح دمشق أقرب إلى طهران، منها إلى أي عاصمة عربية، في الوقت الذي توسع إيران نفوذها ويزداد طموحها لأن تصبح القوة الإقليمية الأعظم، فلابد أن يؤدي ذلك إلى مزيد من التباعد بين سوريا ودول عربية مثل مصر والسعودية. لم يكن هناك اتفاق كامل من قبل بين هذه الدول الثلاث، التي شكلت منطقة القلب في النظام العربي الرسمي منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، باستثناء فترة إبعاد مصر بعد توقيعها معاهدة سلام مع إسرائيل عام 1979. لكن كان ثمة توافق عام بين الدول الثلاث على اتجاهات رئيسية للعمل العربي المشترك دعمها التحالف في مواجهة الغزو العراقي للكويت عام 1990، وتبلورت في قمة الإسكندرية الثلاثية عام 1995. هذا التوافق العام هو الذي أخذ في التراجع بدءاً بغياب الرئيس حافظ الأسد الذي نجح بمهارة في الحفاظ على توازن بين دور سوريا العربي وعلاقتها مع إيران، ووصولاً إلى الصدام السياسي العلني الذي حدث بسبب الخلاف على عملية الوعد الصادق التي قام بها مسلحو "حزب الله" وأعطت إسرائيل ذريعة لشن عدوانها على لبنان في صيف 2006. وعندما هاجم الرئيس بشار الأسد زعماء عرباً آخرين في نهاية تلك الحرب، كانت هذه هي المرة الأولى التي تُستخدم فيها لغة من هذا النوع (أشباه رجال) علناً في خلاف عربي منذ أكثر من ربع قرن. ورغم أن النظام السوري سعى إلى تدارك ذلك، فقد بدا واضحاً أن القلب الذي ضمن استمرار حياة النظام العربي الرسمي في أصعب الظروف وعبر به أزمة 1990 بكل مأساويتها، قد أصيب في العمق. فالخلاف هذه المرة ليس محدداً ولا هو محدود. فهو خلاف شامل تقريباً، رغم كونه يبدو كما لو أنه يتركز في لبنان، وفي مسألة انتخاب الرئيس الجديد خصوصاً. فما الأزمة اللبنانية إلا ساحة تدار فيها صراعات المنطقة. وهي، في أحد أهم أبعادها وبهذا المعنى، صورة مصغرة للأزمة الإقليمية الأوسع. ففي الأزمة اللبنانية، تحضر ملفات المنطقة والصراع عليها، وتظهر بصمات المشروعين الإيراني والأميركي بأشكال مختلفة. ولا يعني ذلك أن طرفي الصراع في لبنان (8 و14 آذار) هما مجرد امتداد لإيران والغرب على التوالي، أو أنهما يخوضان صراعاً بالوكالة. ولكن حضور إيران ومعها سوريا من ناحية، وأميركا ومعها فرنسا ودول غربية أخرى من ناحية ثانية، هو أحد أهم عناصر الأزمة. وهذا هو العنصر الذي يتقدم على غيره حين ترتبط الأزمة اللبنانية بغيرها من الأزمات الساخنة في المنطقة. وهذا كله هو الذي جعل قمة دمشق مختلفة عن قمة القاهرة 1990. وغيرها من القمم، ودفع الدولتين اللتين شكلتا مع سوريا قلب النظام العربي لفترة طويلة إلى خفض مستوى تمثيلهما بشكل دراماتيكي يقترب من المقاطعة الفعلية. وبمقدار ما بدت هذه "المقاطعة" صادمة لكثير من المواطنين العرب، فهي ربما كانت خيراً من مشاركة قد تعمق الانقسام وتديمه إذا تحولت القمة إلي ساحة لتبادل اتهامات ومهاترات. فإذا تعذر الحوار الجاد الموضوعي، يصبح اللقاء منذراً بعواصف يحسن تجنبها. ورغم أن الانقسام بلغ مبلغاً يصعب تجاوزه، فلا بديل عن السعي إلى حوار جاد بين سوريا وكل من مصر والسعودية إن لم يكن لحل الخلافات التي تهدد بالتحول إلى حرب باردة عربية، فلإنقاذ ما يمكن إنقاذه إلى أن تتوفر أجواء أقل حدة. وليت الدول التي تحتفظ بعلاقة طيبة مع الطرفين تتحرك في هذا الاتجاه. وليت الأمين العام للجامعة يبادر بالتحرك الفوري لتشكيل لجنة للإنقاذ تضم بعض هذه الدول، مثل الجزائر والإمارات العربية المتحدة واليمن، للشروع في ترتيب الحوار المفقود الآن بين مصر والسعودية وسوريا. وهذا اقتراح محدد نقدمه للأمين العام... لعل وعسى.