تثير إنجازات الهند الباهرة، إن في مجال الصناعات الدقيقة وتقنيات التسلح العسكري، أو في مجال التجارة والبنية التحتية والتنمية البشرية، إضافة إلى معدلات نموها العالية منذ نحو عقدين... تثير لدى الباحثين المهتمين بدراسة مشاريع التطوير والتحديث الكبرى في بلدان العالم النامي، شهية الحديث عن تجربة "نهوض الهند"، وهو ذاته عنوان الكتاب الذي نعرضه هنا، وقد ضم أربع دراسات تناولت "النموذج الهندي"، و"الهند وميزان القوة العالمي"، و"الشراكة الاستراتيجية الجديدة بين الهند والولايات المتحدة"، وأخيراً "أثر مشكلة كشمير على نهوض الهند". يستهل "جورشاران داس" دراسته حول "النموذج الهندي" بالإشارة إلى أن اقتصاد الهند أصبح رابع أكبر اقتصاد في العالم، وإلى أن وتيرة النمو السنوي للاقتصاد الهندي ارتفعت من 6% خلال الفترة بين عامي 1980 و2002، إلى 7.5% خلال الفترة من 2002 إلى 2006. ثم تتناول الدراسة بعض الخصائص الفريدة لتطور النموذج الهندي، باعتبارها موضع سر أهميته. فبدلاً من اتباع الاستراتيجية الآسيوية التقليدية القائمة على تصدير السلع الرخيصة المصنعة باستخدام أعداد كبيرة من الأيدي العاملة، اعتمدت الهند على أسواقها المحلية أكثر من اعتمادها على التصدير، وعلى الاستهلاك بدلاً من الاستثمار، وعلى الخدمات بدلاً من التصنيع، وأخيراً على الإنتاج باستخدام التقنية المتقدمة، بدلاً من الاعتماد على الأيدي العاملة قليلة المهارة. بيد أن الأمر اللافت في ذلك النموذج، هو أن معدلات النمو المرتفعة للاقتصاد الهندي لم يرافقها تغير حقيقي في أنماط حياة ملايين الهنود الذين يعانون الفقر في الريف. وهنا تشير الدراسة إلى إخفاقات النموذج الهندي وحدود تطوره؛ إذ لايزال المتعهدون الهنود يواجهون عقبات كبيرة، سواء بسبب غلاء أسعار الطاقة الكهربائية، أو بسبب التأثير الفادح للضرائب غير المباشرة على السلع والخدمات، أو نتيجة للبيروقراطية التي يعد فسادها عقبة رئيسية تعترض عجلة التقدم في الهند، وتحول دون تحقيق إصلاحات اقتصادية فعالة. إلا أن أكثر إخفاقات النموذج الهندي سلبية، يتجلى في مجال التعليم، حيث يتضح أن ربع معلمي المدارس الابتدائية الحكومية يتغيبون، ونصف الحاضرين لا يزاولون نشاطاً تدريسياً. وهو الفشل الذي يتكرر بحذافيره تقريباً في قطاعي خدمات الصحة والمياه. وعن موقع الهند في "ميزان القوة العالمي"، يعتبر "سي. راج موهان" أن الهند أفادت من انتهاء الحرب الباردة في تحقيق أهداف استراتيجيها الكبرى، فتمكنت من تحرير اقتصادها، ومن الانفتاح على العولمة، وإعادة صياغة سياستها الخارجية، وذلك بتحويل اهتمام استراتيجيتها نحو جوارها، والشروع في العمل عن قرب مع القوى العالمية الكبرى. وفي هذا المناخ دخلت الهند مفاوضات جادة مع كل من الصين وباكستان، مستفيدة من المظلة التي وفرها لها الإعلان عن قدراتها النووية. وإلى جانب علاقاتها المضطردة مع كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة واليابان، حافظت الهند على علاقاتها التقليدية مع روسيا عقب انهيار الاتحاد السوفييتي. وبفضل تلك الدبلوماسية الذكية والمثابرة معاً، تمتعت الهند بعلاقات جيدة مع جميع الدول الرئيسية، كما اندفعت شركات الطاقة الهندية في التنقيب عن النفط في العالم، من آسيا الوسطى وسيبيريا وحتى غربي أفريقيا وفنزويلا. لكن هل تستمر قدرة الهند على إقامة علاقات جيدة مع أكثر من جهة في وقت واحد، لاسيما في ظل التوترات الأميركية -الصينية المتزايدة؟ نجحت الهند في تسوية خلافاتها مع الصين، بل غدت هذه الأخيرة مرشحة لموقع الشريك التجاري الأول للهند، متجاوزة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. لكن نيودلهي أصبحت شريكاً استراتيجياً مهماً لواشنطن، وعلى ضوء ذلك يناقش "أشتون بي كارتر" الأبعاد والدلالات المرتبطة بالاتفاقية النووية الموقعة عام 2006 بين الهند والولايات المتحدة، والتي باتت تسمى "صفقة الهند"، تلك الاتفاقية التي يرى معارضوها أنها توجه ضربة قاصمة لنظام حظر الانتشار النووي، وتشكل سابقة خطيرة للدول ذات الطموحات النووية. ويرى الكاتب أن المنافع الحقيقية لصفقة الهند، بالنسبة لواشنطن، تكمن في المكاسب التي توفرها لها علاقات استراتيجية موسعة مع نيودلهي، لاسيما في مجال الأمن. بيد أنه وفقاً للكاتب أيضاً، لا توجد ضمانات باستفادة الولايات المتحدة من الشراكة مع الهند في هذا المجال، إذ ستكون للهند آراؤها الخاصة بشأن أفضل الطرق لتنفيذ التزاماتها بموجب الصفقة! ويتساءل "سوميت جانجولي": هل ستوقف كشمير نهوض الهند؟ ويمهد لإجابته بإعطاء نبذة موجزة عن تاريخ الصراع على إقليم كشمير بين الهند وباكستان منذ تأسيس الدولتين عام 1947، حيث خاضتا منذ ذلك التاريخ ثلاث حروب بسبب كشمير، أوشكتا بسببها أيضاً على استخدام الأسلحة النووية مرتين. غير أنه لا الحرب ولا المفاوضات، نجحت في إيجاد تسوية لذلك النزاع، كما لم يحدث تغير في وضع الإقليم الذي تسيطر الهند على ثلثي مساحته، بينما تسيطر باكستان على الجزء الباقي. ومن الواضح أن استمرار التوتر في "الشطر الهندي" من كشمير، يهدد العلاقة مع باكستان، ويؤدي إلى تشتيت انتباه نيودلهي. لكن الكاتب يرى أن النزاع لم يكن له أثر كبير على وصول الهند إلى مركز عالمي مرموق، وهي تشعر اليوم بالثقة والارتياح لإنجازاتها، وكونها حققت ذلك رغم استمرار التمرد في كشمير... لذلك فإن المستقبل- حسب اعتقاد الكاتب- سيكون "إلى جانب الهند"، بسبب تفوقها اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، وربما تتم تسوية النزاع "سلمياً"، ليس عن طريق المفاوضات، ولكن بإنهاك باكستان جراء قلاقلها الداخلية، وتراجع علاقاتها بحليفيها "السابقين"؛ الصين والولايات المتحدة! محمد ولد المنى ـــــــــــــــــــــ الكتاب: نهوض الهند المؤلفون: جماعة الناشر: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية تاريخ النشر: 2008