يأتي الكتاب الأخير للصحفي الأميركي المخضرم "باتريك كوكبورن" بعنوان "مقتدى الصدر: الصحوة الشيعية، والصراع من أجل العراق"، في وقت تتجدد فيه المواجهات بين عناصر "جيش المهدي" التابع للصدر، وبين القوات العراقية التي يدعمها الجيش الأميركي. والكتاب يعتبر الثالث في تناوله للعراق ضمن سلسلة من كتب ألفها الصحفي حول نفس الموضوع، يجمع من خلاله الخيوط المتشعبة حول نشوء "جيش المهدي" تحت قيادة رجل الدين الشيعي الشاب مقتدى الصدر، متتبعاً المعارك التي خاضها ضد الجيش الأميركي والتنافس المحموم على السلطة مع باقي القوى الشيعية في العراق. لكن المؤلف الذي خبر العراق جيداً بفضل زياراته المتكررة له منذ عام 1978، يركز على صعود نجم مقتدى الصدر من خلال معاركه الأولى في النجف، والشعبية الكبيرة التي حازها لدى قطاعات واسعة من الشيعة الفقراء، فضلاً عن تمكنه من البقاء في الساحة السياسية رغم المحاولات الأميركية لإقصائه، وتهم العمالة لإيران التي أطلقتها ضده حكومة إياد علاوي. لكن رغم ذلك نجح الصدر، كما يقول الكاتب، في تكريس مكانته السياسية. هذه المكانة التي توجت بمشاركته في الانتخابات البرلمانية عام 2005 ودخول عناصره إلى المجلس التشريعي، ثم مشاركته في الحكومة العراقية. ويبدأ "كوكبورن" قصة مقتدى الصدر من المنعطف الحاسم الذي وضعه في قلب الأحداث، وتحديداً أزمة أبريل 2004 عندما تحصن "جيش المهدي" في مدينة النجف ودخوله في معارك طاحنة ضد القوات الأميركية خلفت مئات القتلى. فخلال تلك الأزمة، يقول المؤلف، خرج مقتدى الصدر ظافراً من مواجهته مع "بول بريمر" ومع ما كان يعرف وقتها بسلطة التحالف المؤقتة التي فشلت في محاولتها القضاء على الصدر كقوة سياسية ذات حضور طاغ في الشارع العراقي. وبدلاً من إضعافه عبر تكبيده خسائر عسكرية كبيرة، تصاعدت شعبية القائد الشاب في أعين أنصاره وأصبح قائداً سياسياً متجذراً بعد صموده المستميت أمام القوات الأميركية. ويشير الكاتب إلى حسن اختيار مقتدى الصدر توقيت القتال ضد الأميركيين في مدينة النجف، أو ربما يكون مجرد صدفة، حيث تزامنت المعارك العنيفة في الجنوب مع المواجهات الدموية التي كانت تخوضها قوات التحالف مع المتمردين السنة في الفلوجة. لكن بسبب الطريقة القاسية التي تعامل بها الجيش الأميركي مع المتمردين السنة وفشله في تأمين الفلوجة بعد تدميرها والتنكيل بسكانها، فإنها سرعان مع سقطت مرة أخرى في أيدي المتمردين لتصبح عاصمة السنة شبه القريبة من بغداد. ولأن الولايات المتحدة والسلطة العراقية المؤقتة، لم تريدا فتح جبهتين في الوقت نفسه، اضطرت السلطة العراقية المؤقتة إلى سحب تهديداتها لمقتدى الصدر وتخفيض سقف مطالبها المتمثلة في اعتقاله وتفكيك جيش المهدي التابع له. ويواصل الكاتب سرده لأحداث ووقائع ارتبطت بصعود الزعيم الشيعي مقتدى الصدر وتحوله إلى رقم صعب في المعادلة السياسية العراقية، مشيراً في هذا الصدد إلى التغير الذي حصل في بغداد بحلول أغسطس 2004 بعد تشكل سلطة عراقية انتقالية يقودها رئيس الوزراء إياد علاوي، حيث أصبحت قدرات بغداد على فرض الأمن أكبر، وتم نقل السيادة، نظرياً على الأقل، إلى السلطة العراقية الانتقالية في بغداد. لكن وراء مظاهر السيادة والحكم في العراق ظلت أميركا الفاعل الرئيسي المسيطر على الأمن والمتحكم في رسم المسار السياسي للعراقيين. وفي هذا الصدد يشير الكاتب مثلاً إلى جهاز الاستخبارات الوطنية العراقية الذي ظلت تموله وكالة الاستخبارات الأميركية، وقد تأسس بقيادة الجنرال "محمد الشهواني"، كما يقول إن إياد علاوي نفسه كان مقرباً من مصالح الاستخبارات البريطانية والأميركية. لكن مقتدى الصدر الذي ظل صامداً، تراوحت قدراته بين مكامن القوة أحياناً والضعف تارة أخرى قياساً بالشهور الأولى لعام 2004. فقد نجح في تعزيز قبضته على مدينة الصدر وسيطر على أجزاء من الكوفة والنجف، واتضحت قوته من خلال مشاركة قواته في حفظ الاستقرار داخل مناطق سيطرته وتوفير الأمن للأهالي. وخلافاً للطبقة الوسطى من التجار وأصحاب المحلات الذين لم يخفوا توجسهم من ممارسات "جيش المهدي"، فإن الفئات العريضة من الفقراء التفوا حول حركته وقدموا له الدعم والولاء. غير أن اللافت حسب ما يذكره الكاتب هو عدم ثبوت تلك الاتهامات التي وُجهت إلى جيش المهدي، خاصة من قبل بعض الجرائد في العالم السني، من أنه يتلقى تدريبه في إيران. فقد أوضح الواقع الميداني أن جيش المهدي لم يكن في الحقيقة أكثر تدريباً، أو تجهيزاً مما كان عليه في البداية، وكل ما حدث أنه بات أكثر تنظيماً. ولعل الملمح البارز لدى جيش المهدي، كما يقول الكاتب، هو قدرته على تكبد خسائر كبيرة في صفوفه دون أن يتفكك أو ينهار، لكن مع كل ذلك لم يصل جيش المهدي قط إلى احترافية الميليشيات السنية في قتالها ضد الأميركيين لأن معظمها كانواً جنوداً سابقين في الجيش العراقي المنحل. وفي الأخير يصل الكاتب إلى ما يعتبره السبب الرئيسي في تنامي شعبية مقتدى الصدر وفشل خصومه داخل السلطة وخارجها في القضاء عليه. هذا السبب يتمثل في صمود مقتدى الصدر أثناء القتال بمدينة النجف ومشاركته الشخصية في المعارك، وإخفاق القوات الأميركية في تحويل تفوقها العسكري إلى مكاسب سياسية. وهكذا وبعد أن كان مقتدى الصدر مجرد شخص خارج عن القانون تسعى أميركا وحلفاؤها في العراق إلى التخلص منه بات جزءاً أساسياً من العملية السياسية في العراق. زهير الكساب ـــــــــــــــــــــــــــــ الكتاب: مقتدى الصدر: الصحوة الشيعية، والصراع من أجل العراق المؤلف: باتريك كوكبورن الناشر: سكريبنر تاريخ النشر: 2008