في مثل هذا اليوم قبل خمس سنوات، كانت "مطابخ" السياسة الخارجية في دول الشرق الأوسط، كما في الدول الكبرى وغيرها من الدول المعنية بهذه المنطقة، منهمكة في حسابات معقدة بشأن مستقبل العراق بعد الحرب التي كانت في يومها الثامن. لم يكن وقع مفاجأة التعثر المؤقت للقوات الأميركية وحلفائها، عندما اضطرت إلى ما أطلق عليه "وقفة تعبوية"، قد زال بعد. أثارت تلك الوقفة الناجمة عن قلة عدد القوات البرية التي تحركت من جنوب العراق صوب بغداد، شكوكاً في نتائج حرب بدت للجميع محسومة سلفاً. بدا في الأيام الأولى أن قوات نظام صدام حسين قد تكون قادرة على الصمود في الوقت الذي لم تحقق الضربات الجوية الرهيبة "الصدمة والاندهاش" بالمقدار الذي توقعه مخططو الحرب في البنتاجون. كما بدا أن بغداد لن تكون صيداً سهلاً، وقد تمركزت حولها وفي محيطها أفضل الفرق المدرعة العراقية، وهى "فرقة بغداد" التابعة للحرس الجمهوري التي تحصنت عند مداخل العاصمة الجنوبية، وفرقة "نبوخذ نصر" المتمركزة في شمال بغداد، وفرقة "حمورابي" عند أطرافها الشرقية، وفرقة "المدينة" المدرعة في الاتجاه الجنوبي الغربي. كانت الحسابات جارية على قدم وساق، والتوقعات كثيرة والسيناريوهات متعددة. لكن عندما حُسم الموقف عسكرياً بعد أيام قليلة، ظل مستقبل العراق موضع خلاف بين تقديرات مختلفة وسيناريوهات متباينة. ورغم الفجوة الواسعة بين التوقعات الإيجابية والتقديرات السلبية، لم تتنبأ أكثر التوقعات تشاؤماً بالصورة التي صار عليها العراق الآن بعد خمس سنوات على حرب أعلن القائمون بها أنها ستحوله إلى نموذج يقتدى به في الديمقراطية والازدهار والتقدم! فما حدث خلال هذه الفترة يتجاوز السيناريو الأكثر سوءاً، لسبب بسيط هو أن أحداً لم يتخيل الأخطاء الفادحة التي أرتكبها الأميركيون فور إسقاط نظام صدام حسين. فما أن أعلن الرئيس بوش، في الأول من مايو 2003، في خطابه الشهير على متن حاملة الطائرات "يو س اس إبراهام لنكولن"، أن المهمة أُنجزت، حتى توالت الأخطاء الكبرى. وكأنما كانت تلك العبارة هي "كلمة السر" المتفق عليها مع الحاكم الأميركي "بول بريمر" ليشرع في "خطة" تفكيك العراق دولة وجيشاً ومجتمعاً، توطئة لإعادة تركيبه على مقاسات واشنطن ومجموعة "المحافظين الجدد". ففي 16 مايو أصدر بريمر القرار الأول باجتثاث "البعث" وطرد أكثر من 30 ألف موظف في وزارات وأجهزة الدولة العراقية مما أدى إلى شل الإدارة العامة تماماً. ولم يمض يومان حتى كان قد ألقى قنبلته الثانية في القرار الذي أصدره لحل الجيش النظامي، رغم أن "معهد واشنطن" المشهور كان قد نصح بالإبقاء عليه بعد تسريح كبار ضباطه، وحل الحرس الجمهوري والحرس الخاص فقط. وأدى حل الجيش إلى طرد 400 ألف جندي وضابط عراقي بأسلحتهم التي كانت في حوزتهم! كانت هذه بداية فوضى عارمة. مجتمع حُكم بما هو أشد وأقسى من الحديد والنار على مر عقود، وجد نفسه بين عشية وضحاها بلا سلطة ولا قوات أمن ولا قانون. وإذا حدث مثل ذلك في أكثر المجتمعات حداثة وتقدماً، سيعود أدراجه إلى حالة بدائية. فما بالنا بمجتمع كان قد ارتد إلى مثل هذه الحالة بشكل ما وبدرجة معينة، عندما لجأ معظم أفراده إلى الاحتماء بتكويناتهم الاجتماعية الأولية القبائلية والعشائرية والعرقية والطائفية والمذهبية... عسى أن يجدوا فيها بعض ما يعينهم على التعايش مع الخوف المستمر من سلطة "الدولة الحديثة" عندما توحشت. هكذا تحول العراق من بلد موحد خضع لسلطة ديكتاتورية متوحشة فرضت عليه نظاماً محكماً، إلى بلد ممزق يخضع لسطوة مجموعة من السلطات الطائفية والمذهبية والعرقية، مدنية و"ميليشياوية" على حد سواء. ومثلما كان صعباً، قبل خمس سنوات، توقع ما آل إليه حال العراق اليوم، فليس سهلاً تخيل الصورة التي سيكون عليها بعد فترة مماثلة. ففي عام 2013، ستكون الإدارة الأميركية المقبلة التي ستنتخب في نوفمبر القادم قد أنهت فترتها الأولى، وتم تغييرها أو إعادة انتخابها. ولأنه يستحيل في اللحظة الراهنة ترجيح من ستكون له الغلبة في الانتخابات الرئاسية الأكثر سخونة وتنافسية منذ انتخابات 1992 التي تسابق فيها جورج بوش الأب وبيل كلينتون، فمن الصعب توقع اتجاه السياسة الأميركية إزاء العراق مستقبلاً. ولذلك ينتفي أي يقين بشأن الأسئلة الكبرى التي ستحدد إجاباتها، في الأغلب الأعم، ما ستكون عليه صورة العراق بعد خمس سنوات أخرى. وأول هذه الأسئلة هو عما إذا كان العراق سيبقى موحداً. وبمقدار قوة الشكوك في إمكان استمرار العراق بخريطته التي عرفناها منذ عام 1920، تبدو العوامل التي تعمل ضد تقسيمه قوية أيضاً، وخصوصاً في ظل المخاوف العميقة التي تنتاب ثلاثة من جيرانه من إقامة دولة كردية في شمال العراق. ولما كان الجار التركي حليفاً مهماً للولايات المتحدة، ومستعداً للذهاب إلى أقصى مدى في الدفاع عن أمنه القومي، فهو يمتلك قوة ضغط لا يستهان بها. لكن العوامل التي تحول دون التقسيم قد تضعف إذا انتهت الإدارة الأميركية المقبلة إلى استنتاج نهائي يفيد أن "تقسيماً جيداً"، على نحو ما يسميه بعض أعضاء الكونغرس، هو السبيل الوحيد للخروج من المستنقع الذي كادت القوة الأعظم أن تغرق فيه. وإذا لجأت واشنطن إلى هذا الخيار، فالأرجح أن تخرجه تحت عنوان توسيع نطاق الفيدرالية التي أصبحت أساساً للنظام السياسي العراقي في الدستور الحالي، ومنح صلاحيات أكبر للأقاليم على نحو يقترب من الكونفيدرالية التي تقوم في العادة بين دول مستقلة أو شبه مستقلة. وحتى إذا تفوقت العوامل الحائلة دون تقسيم العراق، فمن الصعب توقع صورة العلاقة وأنماط التفاعلات بين مكوناته الدينية والطائفية والمذهبية والعرقية، وفي داخل كل منها. فالتناقض في العراق اليوم ليس فقط بين شيعة وسُنَّة، وعرب وأكراد... بل التناقض في أوساط الشيعة لا يقل حدة، خصوصاً بين "المجلس الأعلى" و"التيار الصدري" وحزبي "الدعوة" و"الفضيلة" وغيرها. الصراعات الطاحنة لا تقتصر على الجنوب والوسط، وهي ليست فقط على السلطة والنفوذ والمكانة والحدود، بل أيضاً على النفط وعوائد المراقد. وكذلك التناقض في الأوساط السُنية حاد وعنيف بدوره، ليس فقط بين تنظيم "القاعدة في بلاد الرافدين" وقوى عراقية أصولية وأخرى عشائرية، ولكن أيضاً بين المشاركين في العملية السياسية (جبهة التوافق) ورافضيها، وبين تيار "الإخوان" المنضوي في إطار "الحزب الإسلامي" والسلفيين، وغير ذلك. في مثل هذه الأجواء، يستحيل حتى الآن، وفي الأفق المنظور، تحقيق المصالحة الوطنية التي فشلت محاولة جديدة للاقتراب منها في المؤتمر الذي عقد يوم 18 مارس الجاري، وانتهى قبل أن يبدأ بسبب مقاطعة قوى رئيسية مثل "جبهة التوافق" و"جبهة الحوار" السُنيتين و"التيار الصدري" الشيعي و"القائمة العراقية" والبعثيين. ويصعب أيضاً توقع مستقبل الميليشيات التي تتغذى على موارد كبيرة لا تقتصر على النفط المسروق الذي يذهب إلى السوق السوداء والتمويلات الخارجية، وإنما تشمل أيضاً تهريب الآثار. وليس هذا إلا بعض الأسئلة الحائرة بشأن مستقبل العراق الذي لا يمكن تصوره أيضاً بدون قدرة على توقع ما إذا كان المهاجرون سيعودون، وبأي معدلات، ومن أي فئات اجتماعية. والسؤال يشمل نحو مليوني شخص هاجروا إلى الخارج، وأكثرهم اضطر للنزوح داخل العراق في ظل إعادة توزيع سكاني على أسس طائفية -مذهبية وعرقية انتقل بموجبها السُنة في بغداد مثلاً من أحياء الصدر والشعب وبغداد الجديدة نحو العامرية والخضراء والدورة، وانتقل الشيعة من الأحياء ذات الغالبية السُنية في غرب العاصمة. وحدث مثل ذلك في كثير من المدن، وفيما بينها. وهكذا يظل مستقبل العراق غامضاً لخمس سنوات أخرى على الأقل بفعل الزلزال الذي دكه في مثل هذه الأيام من عام 2003 وتوابعه التي هدأت نسبياً الآن، لكن آثارها العميقة ستظل مطبوعة على جبين هذا البلد لفترة طويلة.