أخيراً أعلنت السعودية أن مندوبها لدى الجامعة العربية هو الذي سيمثلها في قمة دمشق. وراء هذا الإعلان موقف سعودي واضح من السياسة السورية، وهو بلا شك يؤكد أن شقة الخلاف بين البلدين تتعمق. غياب الملك عبدالله بن عبدالعزيز عن القمة كان شبه مؤكد. وانخفاض التمثيل السعودي كان أيضا شبه مؤكد. كان السؤال إلى أي حد سيكون التمثيل السعودي منخفضاً في هذه القمة. وحقيقة أن وصوله إلى هذا الحد كان متوقعاً، ويتضمن رسالة أكثر مما يعني الدفع بالعلاقات مع سوريا نحو حافة الهاوية. قبل ذلك بأيام كانت السعودية قد عينت سفيرها في دمشق ليكون سفيراً لها في الدوحة، من دون الحديث عن بديل. وهذا مؤشر آخر في الاتجاه نفسه. الأرجح أن تؤثر الخطوة السعودية على مواقف دول عربية أخرى لتخفيض مستوى تمثيلها، مثل الأردن ومصر والمغرب وبعض دول مجلس التعاون الخليجي. مهما يكن السؤال الآن: إلى أين يمكن أن يتجه الخلاف السعودي-السوري؟ إلى تأزم أكثر أم إلى قطيعة كاملة؟ لا يمكن أن يتجه الخلاف إلى صدام عسكري. فليست هناك حدود مباشرة بين سوريا والسعودية، والخلافات بينهما ليست من النوع الذي يبرر مثل هذا الخيار. هي خلافات سياسية حول قضية مشتركة تتعلق بالوضع السياسي المتأزم في لبنان. قد يكون لتدهور العلاقات بين البلدين آثاره السلبية على الأمن في لبنان. هذا مع ملاحظة أن السعودية لم تكن يوماً منافساً لسوريا على الساحة اللبنانية. لكن شيئاً تغير هنا. الحضور السعودي على الساحة اللبنانية هو أكثر بكثير مما كان عليه من قبل، وهذا مرتبط بالتغير الذي حصل للدور السعودي الإقليمي مؤخراً. أيضاً من الواضح أن اغتيال الحريري فجر علاقة لبنان مع سوريا بصورة غير مسبوقة من قبل. الأمر الذي يفرض إعادة صياغة هذه العلاقة بطريقة تختلف عما كانت عليه حتى التمديد السوري للرئبس اللبناني السابق، إميل لحود. يبدو أن القيادة السورية لم تتقبل التغير الذي حصل على هذا الصعيد. التمديد، واغتيال الحريري، وتغير علاقة دمشق مع بيروت، وتزامن كل ذلك مع بروز الدور السعودي هو مصدر الخلاف هنا. ربما قيل إن العلاقات السعودية- السورية سبق أن شهدت تدهوراً خطيراً من قبل، وبالتالي ليس هناك من جديد فيما يحدث لهذه العلاقات الآن. لكن ذلك كان قبل فترة حكم الأسد، وأثناء حكم الدكاترة الثلاثة الشهير (الأتاسي وزعين وماخوس) تحت مظلة الجناح "اليساري" المتطرف للبعث السوري بقيادة صلاح جديد. كان الخلاف آنذاك من نوع مختلف، وفي ظروف مختلفة، سميت حينها بـ"الحرب العربية الباردة". الآن القيادة في سوريا مختلفة، وكذلك الحال بالنسبة للظروف الإقليمية وأسباب الخلاف أيضاً. كان الخلاف امتداداً للخلافات العربية التي كانت تتمحور بشكل أساسي حول المنطلقات الأيديولوجية لسياسات الدول العربية في مرحلة الحرب الباردة. الظرف العربي الحالي لا يتسع لمثل ذلك. هناك محاولات لجعل هذا الظرف يتسع لما اتسع له من قبل. هناك مثلاً من يقول إن الخلاف السعودي- السوري الحالي هو أيضاً خلاف سياسي من منطلقات أيديولوجية. هو يعبر، كما يقال، عن صدام بين مشروعين، أحدهما أميركي يسعى إلى الهيمنة على المنطقة، والسعودية طرف فيه، ومشروع آخر مقاوم أو ممانع للمشروع الأول، وسوريا طرف فيه بقيادة إيران. هذا التوصيف لا يتفق مع الواقع القائم على الأرض، خاصة بالنسبة لسوريا. نعم هناك مشروع أميركي للمنطقة، لكن لا أحد من أصحاب الطرح الأيديولوجي لهذا الموضوع يقول شيئاً واضحاً وملموساً عن هذا المشروع أكثر من ترديد أنه يسعى للهيمنة على المنطقة. وبهذا المعنى ليس هناك من جديد لا في الطرح، ولا في المشروع ذاته. هو مشروع قديم، والمحزن أنه يحقق مكاسب على الأرض. وهذا ليس فقط بسبب ضعف ما يسمى بقوى "الاعتدال" في المنطقة، وإنما بسبب الضعف العربي بما في ذلك سوريا التي لأول مرة في تاريخها الحديث تعتمد في سياستها الخارجية على إيران وليس على جوارها العربي. ولهذا أيضاً علاقة بحقيقة أن سوريا لا تنتمي إلى مفهوم الممانعة أو المقاومة خارج إطار التلويح به كشعار لمحاولة الضغط في الاتجاه المعاكس، مما يجعلها تبدو في حالة تناقض مع نفسها وبالتالي يضيف إلى ضعفها، ومن ثم الضعف العربي. ولأن سوريا جزء من خيار السلام في المنطقة لا تسمح بانطلاق المقاومة من أراضيها، واستخدام ذلك كأداة ضغط مباشرة لتوجهها السلمي. على العكس، هي تستخدم المقاومة اللبنانية لتحقيق الغرض ذاته. يبدو أن دمشق ترى في فكرة المقاومة من أراضيها، إلى جانب أنها تعرضها لمخاطر اختلال موازين القوة مع إسرائيل، لا تتفق مع سعيها الدؤوب للانفتاح على واشنطن بكل السبل، ولمطالبتها المستمرة بمفاوضات غير مشروطة مع إسرائيل. في هذا الإطار يصبح من الطبيعي أنه ليس هناك من خلافات بينها وبين السعودية حول أي من الملفات الإقليمية، وخاصة الملف الفلسطيني. كان الأمر مختلفاً أيام حكم يسار البعث. الأكثر من ذلك أن السعودية تؤيد الموقف السوري من عملية السلام بالكامل، وخاصة مطلبها باستعادة الجولان العربي. يبقى الملف اللبناني هو الوحيد الذي تختلف حوله السعودية مع سوريا حالياً. وهذا أيضاً اختلاف مستجد، ولم يكن موجوداً من قبل. من ناحية أخرى، يأتي انتماء سوريا لمظلة "المقاومة" من خلال علاقتها مع إيران. فهذه الأخيرة تعمل بشكل مثابر ومثير للإعجاب على تعزيز المكاسب السياسية التي تحصلت عليها بسبب الاحتلال الأميركي للعراق. وإيران في هذه الحالة هي في صدام واضح مع السياسة الأميركية. في الوقت نفسه يبقى الأمر لافتاً طبعاً أن مكاسب إيران الإقليمية جاءت نتيجة للسياسة الأميركية التي تجد طهران نفسها في حالة صدام معها. ولعله من الواضح أن سوريا تحاول هنا الاستفادة من الثقل الإيراني لتأمين غطاء لها في منطقة الشام، وخاصة لناحية محاولاتها المستميتة، بعد إرغامها على الخروج من لبنان على خلفية اغتيال رفيق الحريري، الاحتفاظ بورقتها اللبنانية في هذه المنطقة. تحاول ذلك من خلال حلفائها، خاصة القوى الشيعية منها، وتحديداً حزب الله باعتباره الأقوى من بين قوى المعارضة هناك، وباعتبار علاقته الاستراتيجية مع طهران. في هذه المعادلة تمتدح دمشق المقاومة في طهران، وتدعم المقاومة في لبنان، ليس بشكل مباشر، وإنما في الغالب كممر للدعم الإيراني، على أمل أن تحصل على المكاسب السياسية لكل ذلك. هنا يلاحظ أولاً أن دخول إيران كعامل مؤثر إلى هذه الدرجة في معادلة السياسة الخارجية السورية لم يكن موجوداً أيام صلاح جديد. ثانيا أن حضور العامل الإيراني في هذه المعادلة يختلف في عهد الأسد الابن بشار عما كان عليه في عهد الأسد الأب حافظ. في عهد الأب كانت طهران بعد الثورة تمثل عنصراً مهما بالنسبة لدمشق لتحقيق التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل. في الوقت نفسه كانت علاقة دمشق مع طهران آنذاك لموازنة الخصم البعثي في بغداد، ولدعم علاقتها مع القوى الشيعية في لبنان. من نتائج هذه العلاقة إنشاء "حزب الله". وفي كل الأحوال لم تكن علاقة دمشق مع طهران أيام حافظ الأسد بديلاً عن علاقاتها العربية، خاصة مع السعودية ومصر. يصف الصديق الكتائبي لسوريا، كريم بقرادوني، "مذهب حافظ الأسد" بأنه كان يعتمد السياسة المفتوحة على الجميع إقليمياً ودولياً وذلك لتوسيع مساحة تحركه السياسي، وبالتالي توسيع خياراته السياسية. كان ذلك قبل قيام الثورة الإيرانية. بعد الثورة لم يتغير شيء، بل زادت خيارات سوريا. ما يحصل الآن هو أن دمشق في عهد بشار تبدو وكأنها تخلت عن السياسة المفتوحة، الأمر الذي ترتب عليه أن أصبحت سوريا تعتمد على إيران، بدل أن تكون الأخيرة خياراً سياسياً يخضع لمقتضيات الاستراتيجية السورية. من هذه الزاوية سيكون مستقبل علاقات سوريا مع السعودية، وعلاقاتها العربية بشكل عام، خيارا سوريا في الأساس. والعامل الأهم في تحديد هذا المستقبل حالياً هو كيف ستتعامل دمشق مع الملف اللبناني، وخاصة لجهة إعادة صياغة علاقتها مع لبنان في ضوء تداعيات اغتيال الحريري، وخروج القوى المناهضة للهيمنة السورية هناك إلى العلن بشكل قوي ولأول مرة.