عرضنا في المقال السابق لمفهوم المواطِن والمواطَنة في الفكر اليوناني وللكيفية التي استعادت بها الثورة الفرنسية (والإنجليزية والأميركية) هذا المفهوم، مع تجاوز القيود التي جعلها الإغريق شرطاً لتمتع أعضاء مدنهم بحقوق المواطَنة، وبَيَّنا كيف أن عملية "الاستعادة بالتجاوز" التي قامت بها تلك الثورات كانت جزءاً من عملية الثورة ذاتها، الثورة على الاستبداد الإمبراطوري. ونريد الآن أن نتساءل: إذا كانت فكرة المواطَنة والمواطن وما تنطويان عليه من التأكيد على حقوق الإنسان قد انبعثت أو بُعثت في الولايات المتحدة الأميركية وإنجلترا وفرنسا ضمن ثورات شعبية قامت ضد أنواع من الاستبداد والفساد... الخ، وإذا كانت هذه الثورات الشعبية نفسها قد انفجرت، بصورة أو بأخرى، كنتيجة لثورات على صعيد الفكر ميزت ما اصطلح عليه بـ"عصر الأنوار"، أقول إذا كان الأمر كذلك فما الذي جعلنا نحن العرب نتبنى ونتغنى بحقوق الإنسان والمواطن، منذ نحو قرنين من الزمن؟ وبعبارة أخرى إذا كانت ظاهرة المناداة بـ"حقوق الإنسان والمواطن" قد وجدت في الغرب، خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ما يؤسسها تاريخياً واجتماعياً وفكرياً، فما الذي يؤسس هذه الظاهرة نفسها في العالم العربي الراهن؟ إذا نحن عدنا إلى مقالة سابقة نشرت في هذا المكان (بتاريخ 15 يناير 2008) بعنوان "كلام في مفردات الخطاب"، وجدنا لائحة لـ"المفردات" التي قلنا عنها في ذلك المقال إنها قد أُهملت في خطابنا العربي المعاصر لتحل محلها مفردات أخرى تحمل مضامين وتوجهات مخالفة بل مناقضة لها، وأن ذلك حدث منذ قيام العصر الأيديولوجي لظاهرة العولمة أواسط الثمانينيات من القرن الماضي. ومن بين تلك المفردات عبارة "حقوق الشعوب" التي أهملت وحلت محلها عبارة "حقوق الأفراد والأقليات"، أو لنقل باصطلاحنا هنا "حقوق الإنسان والمواطن". واضح أن هذا التحول الذي جرى وما زال يجري لم يكن نتيجة "عصر أنوار" سبقه وأفرزه، ولا مندرجاً في إطار ثورات شعبية عارمة على الاستبداد الإمبراطوري والفساد الملازم له، بل لقد جرى هذا التحول على صعيد الخطاب نتيجة تلك المفارقة العامة التي تحدثنا عنها في مقال نشر قبل الأخير بعنوان "الفكر العربي.. من خلال المرآة المهشمة"، مفارقة طبعت وتطبع علاقتنا بالفكر الأوروبي. بالفعل، كان الشعار الذي ساد في العالم العربي وفي العالم الثالث عموماً هو "حقوق الشعوب"، وكان الأمر يتعلق أساساً بحق الشعوب، التي تعاني من الاستعمار والتبعية المباشرة لهذه القوة الأوروبية أو تلك، حقها في الاستقلال والتحرر من التبعية. ولم يكن شعار "حقوق الإنسان والمواطن" من الشعارات التي كان يمكن أن تطرح وتلقى أصداء شعبية واسعة في الشعوب المستعمرة، لأن شعار حقوق الشعوب كان يفرض نفسه كصاحب أولوية. نعم لقد حاولت السلطات الاستعمارية في هذا البلد أو ذاك أن تروج لـ"حقوق الإنسان" ولـ"الديمقراطية"، ولكن ذلك كان مجرد تضليل لأن هذا الشعار إنما يرفع أصلاً في وجه السلطة الحاكمة، وعندما ترفعه السلطة الحاكمة نفسها فإن ذلك يعني أن وراء الأكمة ما وراءها. بعد الاستقلال، أعطيت الأولوية في معظم البلدان لشعار "بناء الاستقلال" واستكمال التحرر والخروج من التبعية... الخ، وبالتالي تأجيل مسألة الديمقراطية، وبالتالي عدم الاهتمام الكافي بحقوق الإنسان والمواطن. كانت هناك في العالم العربي تحركات وتوجهات منذ الستينيات نحو مسألة الديمقراطية وحقوق الإنسان. وكان يمكن أن تتحول هذه التحركات والتوجهات بفعل التراكم إلى فعل تاريخي لو ترك لها الطريق مفتوحاً بدون عوائق وحواجز، وكان مصدر جل هذه العوائق والحواجز يأتي من القوى المهيمنة على العالم. ذلك أن التوسعات الاستعمارية التي اتخذت شكل غزو مباشر أول الأمر قد استؤنفت بعد موجة الاستقلالات الوطنية في شكل استعمار جديد، بل لقد تم كثير من هذه الاستقلالات في هذا الإطار نفسه. وعندما تغير الوضع في العالم عقب انتهاء "الحرب الباردة" بسقوط الاتحاد السوفييتي، قام "نظام عالمي جديد"، قوامه القطب الواحد وعولمة نظام هذا القطب، كنوع جديد من "الاستعمار الجديد": عولمة إمبراطورية، تمارس الهيمنة من خلال الترويج لشعارات من النوع الذي يقال فيه "حق يراد به باطل". من هذه الشعارات شعار "حقوق الإنسان" الذي أريد به أن يحل محل "حقوق الشعوب". فعلاً، منذ عقدين من السنين أو أزيد قليلاً صار الحديث، عن حقوق الإنسان على كل لسان. والظاهرة اللافتة للنظر هي أن الذين رفعوا هذا الشعار وروَّجوا له واتخذوه ذريعة لكثير من تصرفاتهم ومواقفهم، بحق أو بغير بحق، هم من "الأقوياء" في هذا العالم، أعني "الدول العظمى"، الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبا الغربية. هذا في حين أن شعار "حقوق الإنسان" هو شعار المستضعفين في الأرض، شعوباً وأفراداً؛ فهم الذين هضمت حقوقهم وتهضم باستمرار. ليس هذا فحسب، بل إن مما لا يجوز للملاحِظ اليقظ النزيه أن يغفل عنه، أو يتغافل، هو أن الحكومات الغربية التي ترفع شعار "حقوق الإنسان" لا تحترمها ولا تتصرف بموجبها في بلدانها هي ذاتها إلا بالنسبة لفئة من مواطنيها. أما غير هذه الفئة فهم يعاملون معاملة يهضم فيها كثير من الحقوق التي يجب أن يتمتعوا بها بموجب حق المساواة بين الناس، وهو الحق المؤسس لغيره من حقوق الإنسان الأخرى. هذه المفارقة تطرح قضية أخلاقية من قبيل: "لا تنهَ عن خلق وتأتي مثله"! ومثل هذا السلوك هو محل ريبة دوماً: فالذي يأتي سلوكاً ينهى عنه، أو يمتنع عن إتيان فضيلة يحث الناس على التحلي بها، يفتقد المصداقية ويفسح المجال للشك في نواياه الحقيقية. إن حكومة ترفع شعار حقوق الإنسان سياطاً تلوح بها في وجه غيرها من الحكومات، وفي نفس الوقت تسكت عن غياب بعض حقوق الإنسان في بلدانها، أو بلدان مرتبطة بها، لا يمكن أن تمنع الناس من الشك في مدى إخلاصها في دعواها، ولا في مشروعية ما تلوح به من تنديد أو عقاب إزاء انتهاك غيرها من الحكومات لحقوق الإنسان! إن انتهاك حقوق المستضعفين من المهاجرين والسكان الأصليين وغيرهم من فئات الشعب الأميركي أو الشعب الفرنسي أو البريطاني أو الألماني... الخ، يطعن في مصداقية حكام هذه الشعوب عندما يعاتبون أو يعاقبون حكومات أخرى تنتهك فيها حقوق المستضعفين من أبنائها أو من الطوائف المتساكنة فيها. كما أن سكوت حكومات الدول الغربية على انتهاك حقوق الإنسان الفلسطيني في إسرائيل، أو الإنسان العربي في بعض الدول العربية، والتنديد بالمقابل بانتهاك حقوق الإنسان في دول عربية أخرى، سلوك يفتقد المصداقية لكونه يخرق أهم دعامة في حقوق الإنسان وهي المساواة. فالأمر لا يتعلق هنا بالكيل بمكيالين إزاء الحكام فحسب، بل أيضاً بالتمييز في الشعوب بين من يستحق أن تكون حقوقه المهضومة المنتهكة موضوع دفاع، ومن لا يستحق! ومع أن هذا التلويح المزيف بحقوق الإنسان قد افتضح أمره، حتى صار فضيحة العصر، في العراق الذي تنتهك فيه حقوق الإنسان حتى في أدنى درجاتها، فإن الذين ركبوا هذا الشعار وغيره من الشعارات المزيفة لم يجدوا وسيلة للخروج من المأزق الذي أوقعوا أنفسهم فيه وجروا العالم كله معهم إلى تحمل نتائجه، إلا ما عبر عنه الشاعر العربي بقوله "وداوني بالتي كانت هي الداء". إن كل شيء يشير إلى أن الإدارة الأميركية الحالية لا ترى مخرجاً من أزمة "حقوق الإنسان" التي أوقعت فيها العراق إلا بنشر الأزمة وتمطيطها قصد تعميمها في محيط العراق أولاً، ثم توريثها لمن قد يأتي بعدها إلى "البيت الأبيض"، الذي تحول في أنظار العالم وأنظار أغلبية الشعب الأميركي إلى "بيت أسود".