قاطعت معظم الدول الإسلامية والعربية معرض باريس للكتاب لدعوة إسرائيل لفعالياته وجعل رئيسها ضيفاً فخرياً له، وحظيت تلك المواقف للدول المقاطعة بالإشادة من بعض الأقلام العربية التي استساغت دائماً اللاءات السياسية والثقافية بدون طرح بديل عن تلك الكلمة البسيطة في اللفظ والصعبة في التبعات؛ لنتذكر ماذا حدث في مؤتمر الخرطوم عام 1967، في نفس الوقت الذي كان يصاغ فيه البيان الختامي لمؤتمر قمة العرب ما بعد النكسة، والمحشور بكثير من اللاءات السياسية المشهورة؟ كان رئيس أكبر دولة عربية ينصح من احتُلت أراضيهم بأن يتفاوضوا مع الأميركان لإرجاع ما يمكن إرجاعه من الأرض المحتلة من قِبل حليف أميركا في المنطقة، وتوج هذا الاتجاه بمشروع وزير الخارجية الأميركي آنذاك "روجرز". لم يكن كل هذا يعني سوى شيء واحد: أن اللاءات كانت لإرضاء الشارع وليست أمراً سياسياً حكيماً. وهنا لابد أن أُشير بأنني لست من مؤيدي التفاوض مع إسرائيل لا سراً ولا علناً، وخاصة للدول التي هي في غنى عن إسرائيل، وفي مأمن من احتلال الدولة الصهيونية لأراضيها ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، لكنني لست موافقاً على الإطلاق بأن نمتنع عن كل معرض ثقافي وعلمي عالمي بحجة اشتراك إسرائيل فيه، أو جعلها ضيفة شرف. إننا بهذا نخنق أنفسنا ثقافياً، وإسرائيل هي المستفيدة الوحيدة من انعزالنا التلقائي، فهناك لن يكون إلا الكتاب الإسرائيلي، ووجهة النظر اليهودية في تاريخ دولتهم وفي الفعل السياسي العنصري الحاضر. ستكون كتبنا عن التاريخ الإسرائيلي المزيف وعن محاولتنا نسف نظرية المحارق اليهودية في الحرب العالمية الثانية، وعن تهافت الدعاية اليهودية بأن فلسطين كانت أرضاً بلا شعب، وأن شعب الله المختار -كما يظنون- كانوا شعباً بلا أرض، كل كُتبنا عن الانتفاضة وعن آخر استعمار على كوكب الأرض وعن الجدار العنصري، كل تلك المؤلفات ستكون حبيسة دور كُتبنا خاصةً المترجمة للغات الحية، أو ستكون في متناول القراء العرب الذين يعرفون كل سطر في تلك الكتب المتشابهة من خلال قراءتهم ومشاهدتهم لواقع قضيتهم الأولى بشكل شبه يومي. ستحاول إسرائيل أن تكون حاضرة في كل معرض كتاب عالمي، وفي كل منتدى ثقافي لتطرد العرب، إما باختيارهم أو من خلال التواجد الذكي المكثف للدولة التي لا تتعدى مساحتها مدينة الرياض وما حولها، ولا يتعدى سكانها عدد القاطنين في حي شبرا الخيمة بالقاهرة! بعد اللاءات الثقافية التي نصحَ بها دولنا العربية ضعيفو الحيلة وقليلو الخبرة بضرورة مقاطعة معرض باريس للكتاب، انتشرت أقوال من حكماء عرب عرفوا مقدار الخسارة الثقافية التي افتعلتها لاءات زملائهم ومقدار الربح الذي كسبه عدوهم السياسي والحربي والثقافي، ومقدار الخسارة التي لحقت بالحملة الثقافية العربية الموجهة للجاهل والمتجاهل. لنأخذ مثالاً على تلك التراجعات الحكيمة: "محمد السلماوي" رئيس اتحاد الكُتاب العرب، يقول حسب ما نقلته الصحف: إنه وبمبادرة من الاتحاد وبتوقيع ما يقرب من الخمسة وعشرين نقيباً ورئيس اتحاد إقليمي عربي ومصري، قدمت مذكرة احتجاج إلى السفير الفرنسي في مصر للاحتجاج على مبادرة ضيافة الشرف لإسرائيل، وهذه المذكرة تعد أكثر إيجابية من المقاطعة. ... أيضاً "علاء الأسواني" مؤلف رواية "شيكاغو" قرر أن يشارك بروايته المترجمة للفرنسية في المعرض، وفي نفس الوقت بتوزيع أكبر قدر ممكن من صور الأطفال الذين قُتلوا في غزة. ويعتقد الأستاذ الجامعي المقيم في باريس "حمدان حجاجي" في تصريح له لصحيفة "الوطن" السعودية أن عدم حضور الكتاب العربي في معرض باريس هو عبارة عن عملية عزل للكُتاب والمبدعين العرب، وأن الفرصة (كانت) مُتاحة للمثقفين العرب كي يُعرِّفوا الآخر بإبداعاتهم ولشرح وجهة نظرهم. كاتب آخر هو الأستاذ المترجم "هاشم صالح" يجزم أن الاحتجاج الإيجابي وليس المقاطعة كان الأسلوب الأمثل لنسف فكرة الحضور المكثف لإسرائيل في المعرض الباريسي، وهو مع فكرة أن المقاطعة هي غياب كامل عن الحدث، وكان من الأجدى -والكلام لايزال له- الذهاب وشرح وجهة نظرنا العربية والفلسطينية، فالمشاركة والاحتجاج النقدي كان الأحرى بالدول العربية ومثقفيها فعله بدلاً من العزل الاختياري. مقابل هذا المقال ومقابل الكلام الواقعي الذي قرأناه من بعض المثقفين العرب هناك مواقف مُتشنجة -كالعادة- ترفض فكرة الحضور كليةً بسبب دعوة إسرائيل الشرفية الاحتفالية، وعن ميزان الكسب والخسارة الثقافية لن يتحدث إخوة اللاءات أبداً! والغريب أننا في المناسبات الرياضية نشترك في دورات تضم الدول المغتصبة، وتسير الأمور بلا ضجيج سوى إن أوقعتنا القرعة في مجموعة يلعب فيها "كوهين" و "ليفي" وغيرهما. وكذلك في المهرجانات العالمية للأغنية والأفلام و"ملكات الجمال"، هناك تواجد مكثف لإسرائيل والدول العربية، ولا يفرق بين حناجر مطربينا وصالات عروض أفلامنا وكل أجزاء أجسام "ملكات جمالنا" وبين ما يمثل العدو إلا أجسام فنانين آخرين من عوالم مختلفة، وحوائط تكاد تسمع الجالسين في القاعات تداخل اللغة العربية بالعبرية، أما "ملكات الجمال" فإن الاختلاط بين مبعوثي الحسن عندنا وعندهم فلا وجود له على الإطلاق! بالتأكيد حضورنا في تلك الأنشطة لا يُقاس تأثيره بالحضور العربي في معارض الكتب والمنتديات الثقافية؛ نحن لا نرغب بالأحضان الفكرية بيننا وبين العدو، لكننا نرغب أيضاً في سحب الأحضان الأخرى المحايدة وشبه المحايدة من الاحتواء الثقافي الحميم لـ"بيريز" وما يمثله. وعليَّ أخيراً أن أُذكر عشاق اللاءات بأن السفير الياباني في واشنطن كان يحضر حفلة ثقافية يابانية تقام في العاصمة الأميركية قبل أن ينتقل بعدها مباشرة لمقر وزارة الخارجية الأميركية للتباحث في كيفية تقليل حدة الخلافات بين البلدين، تم ذلك والطائرات اليابانية تكاد تصل بعدها بساعات إلى ميناء "بيل هاربر" الأميركي لسحق ثلث الأسطول الأميركي دفعةً واحدة إبان الحرب العالمية الثانية. من لنا بطائرات عربية ثقافية تقصف ثقافة العدوان الإسرائيلية في معارض الكُتب، حتى ونحن نكتم غيظنا من تصرفات المحتفلين والداعين؟ الأمر الذي يبدو في الأفق وبشكل شبه مؤكد أن طائراتنا الورقية الإعلامية تقصف -خطأً- إبداعنا وضرورة تواجدنا في المحافل المختلفة، وتُكلل بالغار في نفس الوقت جبين طياري العزلة الثقافية.. ولله في خلقه شؤون!