ماذا حدث للتركيبة السياسية الاستراتيجية المسماة بـ"النظام العربي"، وسط كل هذه التطورات الدولية؟ ماذا حدث داخله؟ وماذا جرى خارجه؟ النظام العربي- يقول د. ناصيف حتي،- "يتسم بخاصية لا تعرفها نظم إقليمية أخرى في العالم، فهو نظام دول تقليدي من جهة، وهو نظام مجتمع قومي يقطع عبر الدول ويشكل وعاءها الحضاري من جهة أخرى". صحيح أن البعض يرى أننا نعيش "نهاية العروبة أو مرحلة ما بعد العروبة"، وأن النظام العربي صار نظاماً طبيعياً بمعنى أنه فقد هذه الثنائية المشار إليها، من نكبة 1948 إلى نكسة 1967 إلى حرب أكتوبر واتفاقية كامب ديفيد، ثم إلى الحرب العراقية-الإيرانية وحرب الخليج الثانية عام 1991، إلا أن تعقيدات هذا النظام لا تزال تتوالى مع مختلف التطورات المحلية والدولية. المشهد الذي استقر منذ تسعينيات القرن العشرين، يقول د. حتِّي، قوامه ما يلي: هويات مأزومة للدولة التي لم تستكمل عملية بنائها المؤسسي والوطني، وللقومية التي استقرت على هامش الأحداث بعد أن كانت القوة المحركة لهذا النظام، تبلور نظام جغرافي مفتوح الحدود السياسية والقيمية إذ يعيش النظام العربي درجة عالية من الاختراق بعضه بالتراضي أو القبول الضمني، كما انتعشت الهويات الأصلية دون الدولة. ويضيف د.حتي، في ورقته المقدمة إلى ندوة "المشروع الحضاري النهضوي العربي"، المغرب-فاس، أبريل 2001، إن أزمة الخليج الثانية، ثم عملية السلام التي انطلقت في مدريد، قد فتحت الباب لبلورة مشاريع ترتيبات إقليمية جديدة، "ومن أكثر الأمور سخرية أنه في زمن ثورة الهويات في العالم صار مطلوباً من العرب التخلي عن هويتهم كشرط لدخول عالم الحداثة، أو بشكل آخر اعتماد الدرس الياباني معكوساً". وهكذا وُجد العالم العربي إزاء معادلة تفرض نفسها، "قوامها هويات مأزومة لا تمتلك مشاريع على الأرض، مقابل مشاريع من الخارج لا تمتلك الشرعية المطلوبة والضرورية للتنفيذ". ويتحدث د. حتي عن علاقات النظام العربي بالعالم الإسلامي ثم يقف متأملاً بالذات "الفضاء الأفريقي"، فيلاحظ أن العلاقات العربية- الأفريقية كانت أكثر العلاقات العربية-الدولية التي أصابها التراجع والانهيار وبخاصة إذا تذكرنا أنها كانت علاقات مؤسسية شاملة ومتشعبة، حيث انطلقت بزخم قوي مع القمة العربية- الأفريقية الأولى واليتيمة عام 1977 في القاهرة... ثم أخذت بالتراجع. ولكن لماذا تراجعت العلاقات العربية-الأفريقية؟ لأسباب عدة، فقد تراجعت أو سقطت المفاهيم "العالمثالثية" و"عدم الانحياز" و"تعاون الجنوب مع الجنوب"، كما أصيب النظام العربي والنظام الأفريقي معاً بسلسلة من الحروب السياسية والحروب الأهلية. وتحولت أفريقيا والعالم العربي نحو "الغرب" الأميركي والأوروبي، مع انتشار القيم الليبرالية الاقتصادية. من جانب آخر انتهت قضية التمييز العنصري في جنوب أفريقيا، كما دخلت إسرائيل إلى القارة الأفريقية مدعومة بالولايات المتحدة. ونقف الآن عند بعض الملاحظات التي أبداها المفكر السعودي د. تركي الحمد، فقد قال إن مفهوم "النظام العربي" اصطلاح غامض! ولا معنى لقول د. حتي عن "انحسار الجغرافيا القومية لصالح الجغرافيا السياسية"، فالجغرافيا السياسية واقع ثابت في التاريخ، أما الجغرافيا القومية فهي خاضعة للتقلبات. ثم أن هناك اثنين وعشرين نظاماً عربياً لكل منها حركته الخاصة، فهل تشكل في مجموعها "نظاماً، "إلا إذا كان عدم الانتظام يشكل نظاماً"؟! ثم إن د. حتي يتحدث في فقرة من بحثه عن مهام غير واقعية تنجم عن إحياء النظام العربي. ويعلق د. الحمد قائلاً: "كلام جميل ولا شك، وأهداف كبيرة ولا ريب، ولكنه في النهاية لا يعني أي شيء، طالما أنه يعني كل شيء. فقد كبرت الأهداف وتضخمت، دون أن يكون هناك شرح لكيفية تحقيقها، وآليات بنائها وعملها". ويضيف: "الإغراق في العمومية والغايات والمشاريع الكبيرة، على حساب الغايات الصغيرة، هو في تقديري السبب في أن العرب لم يحققوا أي شيء ذي بال منذ طرحوا سؤال النهضة وإشكاليتها قبل حين، بل كانت النكسات والإحباطات هي المآل. فالسؤال هو: كيف يكون تحقيق الغاية، وليس مجرد الغاية"؟ ومن نماذج قضية الدجاجة والبيضة في ثقافتنا، ما يورد منها د. تركي نموذجاً طريفاً مما نراه في الخطاب القومي التقليدي:"لا يمكن تحرير فلسطين دون الوحدة العربية، التي لا يمكن تحقيقها دون تحرير فلسطين، ولا يمكن تحقيق الاشتراكية دون تحقيق الوحدة العربية، التي لا يمكن أن تتحقق دون تحرير فلسطين، وبالتالي فإن تحرير فلسطين ضرورة لتحقيق الاشتراكية". فالغاية والوسيلة، يقول د.تركي، تختلطان بحيث تنتفي في النهاية الغاية والوسيلة معاً، وهنا تكمن نقطة ضعف رئيسة من نقاط ضعف الخطاب القومي العربي، والتي أدت إلى انحساره وانكساره. د. حتي فيما يبدو، نقل طرحه القومي إلى أفق عالمي، كما يفهمه د. تركي الحمد! فـ"لبناء نظام عالمي جديد يكون للعرب فيه موقع الريادة، لا بد من إحياء الجنوب. وإحياء الجنوب لا يمكن دون دور ريادي عربي، بدوره لن يتحقق دون احتواء الفضاءات الثلاثة (العربي، الإسلامي، الأفريقي)، والذي لا يمكن أن يتم دون إحياء النظام العربي بمشروع حضاري نهضوي. ولكن هذا المشروع مُحارَب من قبل قوى عالمية وإقليمية يجمعها نظام معين، وبالتالي فلابد من سقوط هذا النظام لقيام النظام العربي، وهو لن يسقط إلا بقيام النظام العربي، الذي لن يقوم إلا بمشروع إحياء نهضوي، والذي بدوره لا يمكن أن يتم بوجود مثل هذه القوى، وبذلك نعود من حيث بدأنا، وتكتمل حلقة الدائرة". ومما يلفت النظر فعلاً، أن المتحدثين عن "النظام العربي" يصرفون جل اهتمامهم إلى التوازنات العسكرية والاستراتيجيات الدولية والإقليمية والإمكانيات القتالية أو عدمها، وغير ذلك. ولكن ألا ينبغي أن تسلط الأضواء، ضمن الحديث عن إمكانيات هذا النظام وتأثيره، على جوانب النظام الأخرى كقدراته العلمية وحال الجامعات ومستوى البنية التحتية والمشاكل المختلفة التي تنخر في عظام النظام وتهدد هيكله؟ ألا يحمل سقوط وانهيار الاتحاد السوفييتي بما كان يملك من سلاح فتاك وهيمنة استراتيجية أي دلالة لنا؟ وكما لاحظ أحد المناقشين في الندوة، ما زال العمل الاستثماري العربي المشترك متخلفاً، إذ لا تتجاوز نسبة الاستثمارات المشتركة 2 بالمئة من إجمالي الاستثمارات المحلية. هناك حقاً تقدم وازدهار في الإعلام والفضائيات. ولكن هناك ما يتحدث عنه الجميع من تراجع ثقافي وتربوي وتعليمي. وحتى العودة إلى إعادة بناء الذات العربية من خلال تأصيل فكرها العربي الإسلامي، يضيف المعقب نفسه، "كانت سطحية في عمومها، فلم تكن الاستعانة بالقديم التراثي عميقة الجذور في تأصيلها المعرفي إلا باستثناءات، كما لم تنجح الحداثة العربية بإعادة صياغة النخب وجعلها تساهم بالفعل في حركة الثقافة العالمية". ولهذا، لا تزال الأزمة مستمرة في ثقافتنا وحياتنا السياسية بين الأصولية والليبرالية. ومن المؤسف أن د. قيس العزاوي في مداخلته يقع بكل سذاجة ضحية لتمجيد النمو الديموغرافي أو الكثرة السكانية المنطلقة من عقالها بما لها من آثار سلبية، ويرى فيها "عامل قوة في صراعات الحدود والوجود التي تحاصر وطننا العربي". ولا يناقش مفكرو السياسة العرب طبيعة حكومات هذا "النظام العربي"، ومدى صلاحيتها لهذا العصر الذي نعيش فيه. فكما أنهم يريدون الكثرة البشرية والتكاثر السكاني كرمز من رموز الحضور والثقل الدولي، فإنهم لا يجدون حرجاً في بقاء أقسى الأنظمة الديكتاتورية لمجرد ملء فراغ ما في هذا "النظام العربي". في رده على مجموعة الملاحظات، بيَّن د. حتِّي أن النظام عادة "مجموعة من التفاعلات القائمة والمستقرة وهو دينامي بطبيعته، وهذه هي حال النظام العربي". ونفى الباحث أن تكون الأيديولوجيا قد سيطرت على الورقة، كما جاء في تعقيب د. تركي الحمد، ونفى كذلك أن يكون تحليله للمشهد العربي بسلبياته "ينم عن الموقف القومي التقليدي". ولا يزال الحوار مستمراً حول هذا النظام.