ما يربط فرنسا وبلدان "مجلس التعاون لدول الخليج العربية"، أصبح الآن أكثر من أن يختزله توصيف سريع وأحادي الأبعاد، فثمة بين هذه الدول وفرنسا علاقات استراتيجية بعيدة المدى، تقليدية وتاريخية، ربما تعود مقدماتها إلى غزو نابليون لمصر عام 1798، وما أعقبه من تفاعلات. وبالطبع كانت للانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان بعد الحرب العالمية الأولى أصداؤه السلبية لدى أبناء الخليج، بالقدر الذي سيكون لدور فرنسا، فيما بعد، خلال حرب الخليج الثانية عام 1991، ثم جهودها في إطار "الترويكا الأوروبية" لحل الأزمة النووية الإيرانية... وقع إيجابي في الدفع بعلاقات الجانبين، لتتسع وتتعمق أكثر من ذي قبل. تلك العلاقات هي ما يحاول الكتاب الذي نعرضه هنا، "فرنسا والخليج العربي"، إلقاء الضوء على محطاته الرئيسية، وهو يضم بين دفتيه بحوث ندوة نظمها "مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية" في يونيو 2006، بمشاركة نخبة من الباحثين والكتاب المتخصصين. ففي دراسة حول "السياسة الخارجية الفرنسية تجاه مجلس التعاون لدول الخليج العربية"، يوضح "دنيس بوشار" أن الدول الخليجية في المنظور الفرنسي، تمثل الشريك والطرف الرئيسي، لذلك فقد تكثفت جولات حوارهما السياسي، وتبنيا مواقف متقاربة إزاء كثير من القضايا الإقليمية. وترتكز الشراكة الاقتصادية والثقافية بين الجانبين على العقود والاتفاقيات المشتركة والمصالح المتبادلة، حيث توجد حركة تجارية نشطة آخذة في التعاظم بين دول المجلس وفرنسا التي تستورد النفط والغاز الطبيعي بالدرجة الأولى من تلك الدول. وعلى صعيد آخر، تكشف التعهدات الأمنية الفرنسية عن نفسها عبر مسارات ثلاثة، هي تدعيم أنشطة مكافحة الإرهاب، والمساهمة في تقوية القدرات الدفاعية لدول المجلس، والاستعداد للمشاركة في نظام جماعي يستهدف حماية أمن الخليج. وقد وقعت فرنسا منذ عام 1992، اتفاقيات مع كل من دولة الكويت ودولة قطر ودولة الإمارات العربية المتحدة، تشمل نطاقاً واسعاً من الأنشطة؛ كتبادل المعلومات، والتكوين العسكري، وإجراء مناورات عسكرية مشتركة، وزيارات منتظمة تقوم بها سفن بحرية فرنسية للموانئ الخليجية. هذا إضافة إلى مبيعات الأسلحة والمعدات الفرنسية لدول مجلس التعاون، إذ ما برحت فرنسا تزود الدول الخليجية بمعدات متطورة اشتملت على طائرات استطلاع ومروحيات ومنظومات للتعقب والكشف والاتصالات بعيدة المدى... وهي مبيعات غير مقيدة بأي اشتراطات سياسية، مما جعل فرنسا المصدِّر الرئيسي للمعدات الدفاعية إلى كل من قطر والإمارات. وفيما يخص "السياسات الدفاعية والأمنية الفرنسية في الخليج"، تكشف لنا "فتيحة دازي-هني" عن أن مستوى التعاون العسكري الفرنسي مع دولة الإمارات العربية المتحدة، يعد الأكثر تطوراً بين سائر دول مجلس التعاون، تليها دولة قطر في المرتبة الثانية. فهناك اتفاقيات دفاع بين فرنسا وكل من الدولتين على حدة. ومع أن دولة قطر أصبحت منذ عام 2002 الدولة الخليجية المحورية على صعيد الوجود العسكري الأميركي، إلا أنها ما انفكت تعوِّل على الخبرات الفرنسية في بناء قواتها الأمنية، حيث أخذت فرنسا موقع الصدارة في عملية إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية القطرية. وتنامى التعاون الفرنسي السعودي، منذ توقيع الرياض على أول عقد مع باريس عام 1982، لتزويدها بالمعدات العسكرية الفرنسية. كما دخلت دولة الكويت منذ عام 1992، في التزامات عسكرية مع فرنسا؛ جسدتها مناورات "لؤلؤة الغرب" العسكرية التي يجريها البلدان مرة كل أربع سنوات. وعن "دور فرنسا في إدارة صراعات الشرق الأوسط"، يقول جاك بويون إن باريس تهتدي في هذا الشأن بمبادئ أهمها: تقوية سلطة القانون، واللجوء للأمم المتحدة كآلية دولية، وإبداء التسامح حيال الشعوب والثقافات الأخرى، واستنفاد الجهود الضرورية لإعادة بناء دول ومجتمعات المنطقة، وتدعيم حضور الاتحاد الأوروبي وإعلاء صوته، والسعي لنيل دعم الدول العربية المعتدلة وتعاونها، وإعطاء الأفضلية للأفعال بدلاً من إطلاق الشعارات. ويسعى مجلس التعاون منذ أمد غير قصير إلى تطوير علاقات تعاونية مع الاتحاد الأوربي، ووفقاً لـ"شارل سان- برو"، فإن الاتفاقية التي أبرمها المجلس والاتحاد عام 1988، هي أول اتفاقية من نوعها تعقد بين أوروبا ومنظمة عربية إقليمية، وقد مهدت الطريق أمام طرفيها لإقامة حوار حول قضايا التعاون الاقتصادي والتجاري بين المنظمتين. وفي الدراسة التي قدمها بعنوان "العلاقات الثقافية بين فرنسا ودول الخليج العربي"، يوضح الدكتور علي محمد فخرو أن نمط العلاقات الثقافية الفرنسية-الخليجية وطبيعتها، شهدا تحولاً رئيسياً في أعقاب اكتشاف النفط، وانفتاح المنطقة، وانسحاب بريطانيا، وتعاظم تأثيرات العولمة... لقد أفضت تلك التحولات إلى إكساب اللغة الفرنسية مساحات جديدة في الخليج، وازداد التدفق الإعلامي والثقافي الفرنسي باتجاه المنطقة، وتضاعفت أعداد السياح الخليجيين المتجهين لفرنسا... وبالمحصلة فإن دائرة الحضور الثقافي الفرنسي بالخليج آخذة في النمو والاتساع. ومع أن الفرنسيين بدأوا التعرف، ولأول مرة، على تاريخ بلدان الخليج ونتاجاتها الثقافية والاجتماعية، كما بدأوا اكتشاف صورة جديدة للشخصية العربية من خلال "معهد العالم العربي" في باريس... فإن هناك خللاً في هذه العلاقة، إذ بينما تبدو دول الخليج العربي، أكثر تقبلاً للثقافة الفرنسية، فإن الجهود التي تبذلها فرنسا للانفتاح على الثقافة العربية ما برحت ضئيلة ومحدودة النطاق. محمد ولد المنى ـــــــــــــــــــــ الكتاب: فرنسا والخليج العربي المؤلفون: جماعة الناشر: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية تاريخ النشر: 2008