اعتبرنا -في مقالنا الماضي- أن العولمة هي عصر المراجعة الشاملة للمذاهب السياسية والاقتصادية وللسياسات الثقافية والانتماءات الأصيلة للشعوب. وذلك لأن الانقلاب العالمي الذي ترتب على انهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة من جانب، وسرعة التغيرات التي أحدثتها قوى العولمة المتعددة من جانب آخر، فرضت على مختلف الدول أن تراجع سياساتها وتعيد صياغة مذاهبها الاقتصادية وقيمها الثقافية، حتى تتفق مع مناخ العصر الجديد، الذي اختفت فيه الحدود بين الدول نتيجة سمة "الاتصالية" التي تميز مجتمع المعلومات العالمي، ومن جراء سرعة وعمق التفاعلات بين الأمم والشعوب. وفي هذا المجال كان لابد من إعادة النظر في المذاهب السياسية بعد أن سقطت الشمولية كنظام سياسي، وعقب المقاومة ضد النظم السلطوية التي تعبر عن استمرار نظم حكم تقوم على أساس قمع حركة الجماهير. ومن هنا برزت الديمقراطية -كنظام سياسي- إلى المقدمة، باعتبارها النظام الأمثل الذي يحقق الاحتياجات الأساسية للنخبة والجماهير معاً. وهذا الصعود الديمقراطي -إن صح التعبير- فرض نفسه على الدول العربية المعاصرة، بكل أنماطها الشمولية والسلطوية وشبه الليبرالية. ومازالت بعض النظم السياسية الشمولية تحارب بضراوة موجات الديمقراطية المتدفقة متذرعة بحجج شتى. بعض هذه النظم تدعي أنها هي وليس النظم الديمقراطية الغربية التي تعد التجسيد الحقيقي للديمقراطية المباشرة الموروثة من أثينا! وبعضها الآخر أعلن بداية عصر الإصلاح السياسي، والذي لا يعدو السماح لبعض الأحزاب السياسية أن تلعب دور "الكومبارس" في ملعب الحزب الواحد المتسع الأرجاء! وحاولت نظم أخرى إدخال صيغ بالغة التواضع لنوع من أنواع الشورى غير الملزمة، اقتداء باجتهاد إسلامي قديم، يقر مبدأ الشورى وإن كان لا يرى أنها ملزمة! أما باقي النظم السياسية العربية السلطوية فقد أعلنت برنامجاً واسعاً للإصلاح السياسي. غير أنه في التطبيق ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنها تنزع إلى نوع من أنواع "الديمقراطية المقيدة"، التي تؤدي عملاً إلى وضع عقبات متعددة أمام حق المشاركة السياسية، وهو حق أصيل من حقوق المواطن في أي دولة ديمقراطية. أما في النظم السياسية شبه الليبرالية فقد قنعت بتوسيع دائرة مشاركة الأحزاب السياسية المعارضة في الحكم، من خلال اختيار عدد من زعماء هذه الأحزاب في التشكيلات الوزارية، وفتح باب النقد الذاتي العلني لسياسات العهود السياسية السابقة، التي مارست القهر السياسي بطريقة منهجية منظمة. وإذا تأملنا المشهد السياسي العربي الراهن، يمكن القول إن آفاق الديمقراطية بمعناها الأصيل ليست واسعة ولا ممتدة! والسؤال هو: ما الذي يمنع تحقيق الديمقراطية في العالم العربي؟ الواقع أن الإجابة تحتاج إلا الإلمام بكل عناصر الصورة المجتمعية العربية المعقدة. وليس هناك من شك في أن المجتمع العربي قد ورث تقاليد قبلية راسخة، تعد من بين معوقات الممارسة الديمقراطية، بالإضافة إلى تقاليد العصبية والطائفية. صحيح أن عدداً من البلاد العربية قد قطع أشواطاً متعددة في مجال التحديث، غير أن هذه المحاولات التحديثية لم تستطع أن تحقق الحداثة الحقيقية، بما تتضمنه من الاحترام الشديد للفرد وحقوقه باعتباره فرداً، ومن سيادة العقلانية، ومن تأسيس دولة القانون، والتي تعيد احترام حق المواطنة بغير تمييز بين الجنس واللون والدين، وهو من الحقوق المقدسة. وقبل ذلك كله لم تستطع محاولات التحديث عشوائية كانت أم منظمة، أن تصل لعتبة تداول السلطة، وهو مبدأ بغيره لا تقوم أي ديمقراطية. وهكذا يمكن القول إن الأوضاع الاجتماعية الموروثة والحالية الناجمة عن استئثار طبقات اجتماعية بعينها بالسلطة طوال مراحل تاريخية طويلة، من بين أهم الأسباب التي تحول دون نشوء ديمقراطية عربية أصيلة. غير أنه بجانب ذلك لابد من الإشارة إلى الدور السلبي الذي مارسته النخبة السياسية العربية في مجال تحقيق المثال الديمقراطي. ذلك أن بعض أجنحة النخبة اليسارية عموماً والاشتراكية والقومية خصوصاً وقفت في مراحل تاريخية سابقة موقف العداء الصريح من الديمقراطية الغربية، باعتبارها تعبيراً عن الطبقات البرجوازية الغربية، وبالتالي فهي لا تستطيع تمثيل مصالح الجماهير العريضة التي تنتمي للطبقات الفقيرة والوسطى. لذلك انحازت هذه الأجنحة إلى الديمقراطية الاشتراكية التي ترفع رايات العدل الاجتماعي للجماهير، حتى لو كان ذلك على حساب الحريات السياسية التي تقدسها الديمقراطية باعتبارها نظاماً سياسياً. وقد أدى ذلك إلى انعزال أجنحة النخبة الليبرالية وانزوائها في عصور "الثورات الشعبية" مما أدى إلى جمود وتكلس خطابها السياسي. وإذا كانت هذه النخب الليبرالية العربية قد تم استدعاؤها في مرحلتنا الراهنة على عجل، لتجميل وجه السلطة السلطوية الراسخة، إلا أنها أثبتت عجزها عن التجدد السياسي، بل وأصبح مشروعها مماثلاً، إلا قليلاً، لمشروع الدولة العربية السلطوية، التي تريد أن تتجمَّل بالديمقراطية، مع أنها في الواقع تكذب كذباً صريحاً في هذا المجال. وإذا أضفنا إلى ذلك تدهور الأوضاع الثقافية في المجتمع العربي الذي تبلغ نسبة الأمية فيه 40%، والافتقار إلى أسس التفكير العلمي، وغلبة التفكير الخرافي، وطغيان التطرف الديني الذي يمارس الإرهاب المعنوي بوجه عام ضد قوى الحداثة والعصرية، وأدى بوجه خاص إلى الوقوع في وهْدة الإرهاب الصريح، فإن عوائق التطور الديمقراطي تصبح جلية واضحة. غير أنه يمكن القول إن بعض عناصر النخبة الثقافية العربية أدركت منذ عقود وخصوصاً بعد هزيمة يونيو 1967، تعقيد المأزق الديمقراطي الذي يمر به المجتمع العربي. ولذلك نظمت هذه العناصر صفوفها وعقدت ندوات شتى في عواصم عربية متعددة لمناقشة تحديات الديمقراطية. ومن أبرز هذه الندوات الرائدة تلك التي عقدها "مركز دراسات الوحدة العربية" في قبرص وذلك عام 1989 وشاركت فيها بالأبحاث والمناقشات مجموعة من أبرز الباحثين والمفكرين العرب. كان عنوان الندوة الدال "أزمة الديمقراطية في الوطن العربي". وقد مثلت الاتجاهات اليسارية واليمينية والإسلامية شخصيات بارزة تنتمي إلى هذه التيارات جميعاً. ودار حوار خصب في هذه الندوة التي نشرت بالكامل أبحاثها ومداولاتها في كتاب يعد مرجعاً فكرياً أساسياً. وقد راجعت -بمناسبة كتابة هذا المقال- عدداً من أعمال هذه الندوات، وتأملت دراسة قديمة لي نشرتها عقب عقد هذه الندوة وكنت مشاركاً فيها، وكانت بعنوان "سقوط الأساطير السياسية". واكتشفت أنه -للأسف الشديد- بعد مرور حوالى عقدين من الزمن مازلنا لم نستطع تخطي عتبة التأسيس الحقيقي والأصيل لديمقراطية عربية أصيلة، يمكن أن تجعلنا كعرب نعيش ككائنات مبدعة وخلاقه في عصر العولمة. وذلك بالرغم من التشخيص الدقيق للأزمة الذي قام به عدد من المفكرين العرب المبدعين. ووجدتني في هذه الدراسة القديمة أقرر أننا ".. عشنا منذ عهد الاستقلال العربي في أوائل الخمسينيات في ظل ثلاث أساطير سياسية: الأسطورة الأولى هي الثورة بغير ديمقراطية، والأسطورة الثانية هي الاشتراكية بغير مشاركة شعبية، والأسطورة الثالثة هي إمكانية تحقيق الوحدة العربية باستخدام القوة". ويمكن أن نضيف اليوم أسطورة رابعة وهي تحقيق الديمقراطية بغير ديمقراطيين! غير أنه أهم من ذلك كله، ما خلصت إليه من نتيجة أساسية مفادها أن النخبة الثقافية العربية يبدو أنها تحلم بنموذج ديمقراطي شامل يتكون من عناصر أساسية وهي: - تحقيق الحريات الأساسية للإنسان مستقاة من النموذج الليبرالي. - وتحقيق العدالة الاجتماعية مستقاة من النموذج الاشتراكي. - وتحقيق الأصالة الحضارية مستقاة من النموذج الإسلامي. حلم مشروع، وإن كان زاخراً بالمشكلات النظرية والتطبيقية على السواء!