تتيح مناسبة الإعلان عن الفائز بجائزة "بوكر" للرواية العربية, في أبوظبي مؤخراً, وفوز الروائي المصري بهاء طاهر بها, فرصة لإعادة التأمل بموقع ودور الرواية العربية والكتابة الإبداعية عموماً في مقاربة السياق الاجتماعي والثقافي العربي العام. ويزيد من الدفع لمثل هذا التأمل ليس فقط طبيعة الموضوعات التي تناقشها الروايات التي وصلت إلى القائمة القصيرة للحصول على الجائزة من ضمن أكثر من 130 رواية متنافسة, بل وأيضاً جرأة الطرح وتقدميته المُقدمة في شكل درامي وروائي ناجح وغير وعظي أو مُؤدلَج. الشيء الملفت والذي يستحق التوقف عنده هو دلالة العدد الكبير للروايات المتنافسة على جائزة ما زالت حديثة وغير معروفة تماماً، ويتم الإعلان عنها للمرة الأولى. يشير ذلك إلى نهوض ملفت لا يمكن إغفاله في المشهد الروائي العربي شاملاً معظم البلدان العربية. قراءة الأسباب المفسرة لمثل هذا النهوض وللزيادة المرئية في عدد الروايات العربية الصادرة كل عام يقع خارج إطار الفكرة الأساسية لهذه السطور, وربما يستحق وقفة خاصة به عما قريب. لكن ما يُراد التركيز عليه هنا هو الزعم بأن الرواية العربية الراهنة تشكل خط السجال الأمامي والحقيقي والأكثر جرأة في الفكر والنقد المعاصر الخاص بالمجتمع العربي متجاوزة أدبيات المفكرين والسياسيين والأكاديميين وغيرهم من مثقفي اللحظة الحالية. ما تمتاز به الرواية هو تقديمها لرؤية ذاتية حادة وغير مساومة لتفاصيل وزوايا عالم الفرد والمجتمع, متوقفة عند ظرف ما أو معاناة أو لحظة تخترق من خلالها عوالم لا يصل إليها غير الروائي, ولا يمكن لمعالجة أكاديمية أو علمية أن تنفذ إليها. الرواية العربية الحالية أكثر كشفاً من كونها المرآة المحدبة للفشل العربي الذريع في كل الصعد, وأبعد من أن تُحصر بكونها آلية تعرية قاسية لكل الخيبات, بل يُضاف إلى ذلك اقترافها لجرأة نادرة في تسمية الأشياء بأسمائها والتحريض على استئصال سرطانات الإعاقة الجماعية. "الجبروت" المحبَّب للرواية يكمن في أن المضمون الذي تحتويه يطيل من قامته ويوسع من قاعدته الشكل الجاذب واللغة الحُرة والذاتية المفرطة للكاتب أو الكاتبة. أتيحت لي قراءة خمس روايات من الست التي وصلت إلى القائمة القصيرة في جائزة "بوكر", وكانت في قراءتها متعة حقيقية أكدت تعزز الآفاق الجديدة التي ترتادها الرواية العربية المعاصرة, ورياديتها الفكرية في زمن الجمود الاجتماعي والتردد الفكري والتردي السياسي العام. ليس من الإنصاف بالطبع تلخيص خمس روايات أو حتى الإشارة العابرة إليها في مقالة قصيرة. فالرواية كنص إبداعي تظل عصية على التلخيص, بخلاف أي نص آخر, أكاديمي أو صحفي مثلاً. وتستلزم المغامرة بمحاولة التأشير إلى هذه الروايات الاعتذار سلفاً عن الإخلال الحتمي والقصور عن الغوص في الذائقة الحقيقية والمسهبة لكل من تلك النصوص. لكن ما يُراد التوكيد عليه هنا, وكمسوِّغ لمثل هذه المغامرة, هو عنصر الجرأة والمواجهة الذي تحتويه هذه النصوص جميعها. وهي جرأة غير مفتعلة ولا تظاهرية, لكنها تنبني بشكل طبيعي ومقنِع. الرواية الأولى والفائزة بالجائزة الأهم هي "واحة الغروب" لبهاء طاهر, وهي إطلالة على مصر الخديوات والحكم الإنجليزي في نهايات القرن التاسع عشر, مترافقاً معها الغوص في تحليل جزء من حالات "التسليم" بالأمر الواقع والاستسلام للذة الماضي التليد, الفرعوني والإغريقي, هرباً من مواجهة الحاضر الاحتلالي. واحد من المسارات المتعددة للرواية يركز على هوس بعض أبطالها بالأجداد الفراعنة ومجدهم وبالإسكندر الكبير ومحاولة إثبات أن قبره يقع في واحة سيوة النائية والواقعة على الحدود المصرية- الليبية. هذا النشدان المعيق للماضي هو الذي يستفز بطل الرواية الغارق في مسار صراعي آخر بينه وبين نفسه, وينتهي به إلى "حرق المعبد" المتوقع أن يكون قبراً للإسكندر وهو يصرخ بأنه من دون قتل هذا الماضي المُستحوذ على الحاضر وأهله فإن المستقبل نفسه سيظل حبيساً. بقية الروايات الأخرى تتضمن "أرض اليمبوس" للأردني إلياس فركوح, وجرأتها الروائية والفكرية والتأملية متعددة الأوجه. ففضلاً عن شكلها التجريبي المثير حيث الراوي ينشطر إلى مخاطِب ومخاطَب يتبادلان الحديث المطول حول مسيرة مُزنَّرة بالخيبة, هناك فكرة الأرض الوسطى, أرض الحيرة, التي يؤول إليها هؤلاء الذين يجدون أنفسهم وسط معسكرين. "اليمبوس" هي, بحسب التقليد المسيحي, الأرض التي يخصصها الرب خارج الجنة لأولئك الأطفال الذين يموتون قبل أن يتم تعميدهم, أما أولئك المعمدون من الأطفال فإن مآلهم الطبيعي الجنة. بطل فركوح "اليمبوسي" موزع بين القدس وعمان, يدرس هنا وهناك, ويتشظَّى حُبه هناك وهنا, ومع الحرب يعيش حياته في عمان, وتعيش حبيبة طفولته في القدس. وعندما تحيل حوادث السياسة كل البشاعة على ضفاف الحب فلا يعرف صاحبنا إلى أين ينتمي: أفلسطيني هو أم أردني؟ فهؤلاء لا يريدونه, وهؤلاء يتعجبون من رغبته بأن يصير "معهم" وهو أصلاً "من أولئك". "مديح الكراهية" للروائي السوري خالد خليفة تشد جرأة المعالجة فيها إلى آفاق لم تصل إليها الأدبيات السورية المعاصرة: مواجهة المجابهة العنفية بين "الإخوان المسلمين" والنظام في عقدي السبعينيات والثمانينيات. لسنا هنا أمام مقاربة تقليدية بل مبدعة حقاً وعلى لسان فتاة, وليس شاب, بما يفاقم من حدة الجرأة والكشف. بطلتنا تغرق في التنظيمات الأصولية وفي "الكراهية" للآخرين نظاماً وطائفة. والنظام وأجهزته الأمنية يصبان كراهيات فوق كراهيات فتصير "الكراهية" هي البوتقة التي تضيع فيها الروح: كراهية تمتد إلى الذات والجسد, والتي من دون التحرر منها فإن قتل اغتراب الفتاة, البطلة (ومن ورائها المجتمع) والتي لم نعرف اسمها، يظل مستحيلاً. الروائي المصري "مكاوي سعيد" كاتب الرواية الرائقة وسريعة الإيقاع "تغريدة البجعة" يقدم سلسلة متواصلة من الصفعات في وجوه التحزبات السياسية والنظام السياسي نفسه إذ يتبادلان الفشل على خلفية مجموعة من الشخوص الذين نرى فيهم تشوّهات ما أنتجه تكالب الظروف في مجتمع لا يني ينتقل من ضغط لآخر. كل من رشف شاياً في "المطعم اليوناني" فوق "غروبي" في قلب القاهرة ويعرف جانباً من نضالات مثقفيها وانتصاراتهم الصغيرة وانتكاساتهم الكبيرة سوف يرافق أبطال الرواية ويصير واحداً منهم. سيشارك البطل في عشق زينب, وسيموت معه حين يموت و"يغرد تغريدته الأخيرة". أما جبّور الدويهي من لبنان في "مطر حزيران" فهو الأكثر جرأة وشجاعة, إذ يكشف لنا عفن عادات الثأر وصراعات العوائل على النفوذ والولاء السياسي ومن أجل "الزعْرنة" في القرى المسيحية في جبل لبنان في الخمسينيات والستينيات وما تلاها. نتذكر بأسى ونحن نشم رائحة الدم المُراق بلا سبب والمعارك التي تنشب لأتفه أمر، روايات لا تحصى كشفت لنا عن عفن كثير من التقاليد في الريف والقرية في أكثر البلدان العربية. لا نستطيع إلا أن نرسم متوازيات بين العفن هنا وهناك, وكأنه القاسم المشترك لمجتمعات المنطقة والذي وحده يستوجب التحالف ضده, تحالف المسلمين والمسيحيين. الرواية السادسة والأخيرة ضمن القائمة القصيرة، والتي لم يتح لي قراءتها هي "أنتعل الغبار وأمشي" للكاتبة اللبنانية مي منسي, وتجب الإشارة على الأقل لعنوانها واسم كاتبتها هنا.