يرى بعض المراقبين أن تيمور الشرقية في أحداثها الأخيرة المؤسفة ابتعدت كثيراً عن المشهد الآسيوي العام، وما يتصف به من وئام وسلام ومعدلات نمو مرتفعة وأوضاع اقتصادية مشجعة وانصراف الناس إلى التنمية والبناء والتحصيل في ظل أنظمة حكم مستقرة ومؤسسات راسخة، واقتربت من حالة أفريقيا السوداء، حيث الحروب الأهلية والانقلابات العسكرية والنزاعات القبلية والانفلات الأمني والمؤسسات المهترئة والفساد المستشري والتراجعات الاقتصادية والمعيشية. فهذه التي أعلنت رسمياً استقلالها في مايو 2002 لتصبح أول كيان مستقل في الألفية الثالثة، والتي قدمت أكثر من 250 ألف نسمة من أبنائها قرباناً للتحرر أولاً من الاستعمار البرتغالي الذي بدأ في عام 1859، ثم من الاستعمار الإندونيسي الذي حل مكان البرتغالي ابتداء من عام 1975، واستطاعت بمساعدة المجتمع الدولي أن تقيم مؤسساتها الديمقراطية، بل وضربت المثل في التسامح الديني حينما منحت -وهي الدولة التي تدين الأغلبية الساحقة من مواطنيها بالكاثوليكية- رئاسة السلطة التنفيذية إلى أحد مواطنيها المسلمين من ذوي الأصول العربية الحضرمية (مرعي بن عمودي الكثيري)، انجرفت خلال خمس سنوات فقط من الاستقلال، نحو الفوضى وأعمال العنف المؤدية إلى الحرب الأهلية، بل إن فشل مؤسسات الدولة في التعامل مع تلك الحالة، واضطرار الحكومة إلى طلب المساعدة الخارجية للسيطرة على الأوضاع المنفلتة، على نحو ما حدث في مايو2006، أعطى انطباعاً عاماً حول مدى هشاشة هياكل الحكم التيمورية، ناهيك عن انطباع آخر هو ضياع الحلم الذي أفنى التيموريون أكثر من ربع قرن من الزمن في سبيل تحقيقه، وبالتالي مضي الأوضاع في هذه البلاد نحو الهاوية. وهذا ما تأكد بعضه مؤخراً حينما وقع ما يشبه المحاولة الانقلابية على الحكومة الشرعية المنتخبة، والتي ردت الأخيرة عليها بإعلان حالة الطوارئ ومنع التجول وطلب المزيد من المساعدات العسكرية من الجارة الأسترالية. ففي الخامس من فبراير الماضي، أقدم نفر من المتمردين بقيادة الرئيس السابق للشرطة العسكرية "ألفريدورينادو" على محاولة فاشلة لاغتيال الرئيس المنتخب والحائز على جائزة نوبل للسلام لعام 1996 "خوزيه راموس هورتا" في منزله في العاصمة ديلي. وبالتزامن، كانت مجموعة أخرى من المتمردين بقيادة العقيد "غاستاوسالسينها" مساعد الرئيس السابق للشرطة العسكرية تنصب كميناً على إحدى الطرقات الريفية للإيقاع ببطل الاستقلال وأول رؤساء البلاد "خوزيه الكسندر شنانا غوسماو" المعروف بنيلسون مانديلا آسيا. والمعروف أن تدهور الأوضاع في تيمور بدأ في مارس 2006 بقرار رئيس الحكومة السابق "مرعي الكثيري" طرد نحو ثلث أفراد جيش البلاد الصغير المكون من 1400 عنصر، وهو القرار الذي أغضب الكثيرين وعُدّ بمثابة ممارسة فاضحة للتمييز العرقي، كونه استهدف تحديداً أبناء تيمور المنحدرين من الإقليم الغربي للبلاد بدعوى ضعف الثقة في إخلاصهم وولائهم للدولة الجديدة. ولعل أفضل دليل على الانزعاج الشعبي من القرار هو مسارعة نحو70 بالمئة من عناصر قوات الشرطة المحلية وأعداد كبيرة من الشباب العاطلين، إضافة إلى أعضاء العصابات المحلية المتنافسة للانضمام إلى من تم طردهم من الجيش من أجل تشكيل حركة تمرد ضد السلطة. وقد تطورت الأمور بعد ذلك سريعاً في صورة اضطرابات واسعة وأعمال عنف وترويع قادها "ألفريدورينادو" الذي كان قد نجح في الفرار من سجنه مع مجموعة من أتباعه واللجوء إلى الجبال. ويمكن القول إن أحد العوامل التي ساهمت في تطور الأمور بتلك الصورة المؤسفة هي الانقسامات السياسية والاحتقانات العرقية التي لئن ظلت مكبوتة طيلة حقبة النضال من أجل الاستقلال، فإنها وجدت في فترة ما بعد قيام الدولة المستقلة فرصتها لتطل برأسها. أما العوامل الأخرى المساعدة فشملت استشراء البطالة والفساد الإداري وتفشي ثقافة العنف والعنف المضاد في المجتمع كنتيجة لربع قرن متواصل من الاستعمار والقمع الدموي على يد الجيش الإندونيسي، أضف إلى ذلك الخلافات داخل حزب "فريتلين" الحاكم (أوحزب الجبهة الثورية من أجل تيمور شرقية مستقلة) ونزوع رئيس الحكومة وزعيم الحزب المذكور "مرعي الكثيري" نحوالديكتاتورية في قراراته، وضعف إمكانات الدولة المالية والتي بسببها عجزت الحكومة عن القيام بتنمية حقيقية وسريعة تلبي الحد الأدنى من أحلام الجماهير، بل عجزت حتى عن استكمال بعض مظاهر الدولة المستقلة، مثل إقامة السفارات والممثليات في دول الجوار الآسيوية على الأقل. لكن بعيداً عن كل تلك الأسباب التي أوصلت الأمور في تيمور إلى ما وصلت إليه من ضعف وانهيار، يبقى اللوم من نصيب منظمة أمم جنوب شرق آسيا المعروفة باسم "آسيان"، التي بدلاً من احتضان هذا الكيان الوليد ودمجه في المنظومة فوراً، فضلت أن تستسلم لبعض المعايير الشكلية -مثل ضرورة أن يكون للعضو الجديد تمثيل دبلوماسي كامل مع الدول الأعضاء كافة، وضرورة أن تكون تجارتها محررة بالكامل، وأن تثبت قدرتها على دفع تكاليف العضوية البالغة مليون دولار في السنة-. فلو أن "آسيان" منحت عضويتها الكاملة لتيمور بدلاً من منحها صفة مراقب ابتداء من عام 2002، وضخت فيها الاستثمارات والمساعدات والمعونات الفنية للارتقاء بأحوالها الاقتصادية والتنموية البائسة على غرار ما فعلته مع أعضائها الأقل نمواً وثراء في منطقة الهند الصينية (لاوس وكمبوديا وفيتنام) في بداية مشوار التحاقهم بالمنظومة، لربما تغيرت الصورة تماماً، ولما نشأت بؤرة في الجوار تهدد سلام وأمن المنطقة بأسرها، بل لحالت دون اعتماد الدولة الوليدة على قوات أجنبية أسترالية للحماية، هذا الاعتماد الذي صار مؤخراً حجة جديدة عند المتمردين للاستمرار في التمرد ضد الحكومة. صحيح أن قائدي التمرد لقيا حتفهما في تبادل إطلاق النار مع حرس رئيسي الحكومة والجمهورية، لكن الصحيح أيضاً أن للرجلين المتمردين أتباعاً كثر مستعدون لمواصلة خلق المتاعب للحكومة، بل وأيضاً لقوات السلام الأسترالية البالغ عددها نحو800 عنصر، خاصة أن مشاعر الحب والترحيب التي أبداها التيموريون تجاه هذه القوات في عام 1999 حينما دخلت الأخيرة إلى تيمور الشرقية لأول مرة لحماية شعبها من قمع الجيش الإندونيسي تحت علم الأمم المتحدة، توارت اليوم، وحلت مكانها مشاعر عدائية. والمعروف أن القوات الأسترالية لعبت دوراً حاسما في إعادة الاستقرار إلى أقاليم تيمور في أعقاب تمرد العام 2006، كما قامت بدور مشهود في إتمام الانتخابات الرئاسية لعام 2007 بنجاح وشفافية، وهي الانتخابات التي فاز بها الرئيس الحالي "هورتا" بالرئاسة خلفاً لزميله "غوسماو". ومما يجدر ذكره في هذا السياق أن "هورتا" وعد ناخبيه أثناء حملاته الانتخابية بأن يستمر في استضافة القوات الأسترالية والأجنبية الأخرى على التراب التيموري لمدة خمس سنوات أخرى على الأقل إلى حين قيام جيش وطني غير منقسم جهوياً وقادر على تحمل مسؤوليات الأمن بكفاءة، علماً بأن مثل هذا الجيش يجري الآن إعداده بمساعدة مالية وفنية من الصين وأستراليا والبرتغال والبرازيل. أما منافسوه على الرئاسة فقد تعهدوا بإعادة تلك القوات إلى بلادها في أسرع وقت ممكن، زاعمين أن استمرار وجودها ينتقص من السيادة الوطنية، ومشيرين إلى بعض الحالات والحوادث القليلة التي تجاوز فيها الأستراليون تقاليد البلاد أولم يمتثلوا لأوامر مسؤولين محليين أو تصرفوا معهم بعجرفة وعنجهية. ويبدو أن الأستراليين أدركوا مؤخراً هذه الأمور المسيئة لصورة جنودهم ودورهم في تيمور، فبادروا إلى محاولة تحسينها. وفي هذا السياق، يمكن التطرق إلى ما قام به قائد القوات الأسترالية الجديد البريجادير "بيتر هيتشيسون". فالأخير خلافاً لسلفه الجنرال "مايك سميث"، عمد إلى شراء احتياجات جنوده من الطعام والشراب من السوق المحلية، بقصد خلق علاقات ثقة وروابط ومصالح تبادلية مع السكان المحليين، كما أعطى اهتماماً شخصياً أكبر لمسألة الانضباط بين قواته، وهو ما تقلصت معه حالات الرعونة والتصرفات الهوجاء كقيادة المركبات بتهور في صفوف الجنود الأستراليين.