الموتُ حق ولا اعتراض عليه، ولكن هنالك من الناس من يموتون ميتة استثنائية كونهم بشراً غير عاديين! وموتُ الدكتور أحمد الربعي كان استثنائياً لأنه بفقدهِ تفقد الساحة الخليجية والعربية الأكاديمية والإعلامية والسياسية مناضلاً ليبرالياً سعى طوال حياته إلى تأكيد القيم الإنسانية، وتعرّض إلى العديد من المواقف وعلى جبهات متعددة خصوصاً عندما تسنَّم مسؤولية وزارة التعليم. والرجل لم يسع إلى المنصب الوزاري، بل قادته الديمقراطية إلى البرلمان الكويتي -مجلس الأمة- الذي صالَ وجالَ فيه من أجل إرساء دعائم الديمقراطية، مُدافعاً عن الكويت بكل ما أوتي من حجة! وصارع العديد من القوى المُخالفة له، وكان له الرأيُ السديد وقوة الحجة فيما كان يذهب إليه في تلك الصراعات، وشكّل أبرزَ رموز المُعارضة في مجلس الأمة عام 1995، كما برزت لمساتهُ الأكاديمية ورؤيته التجديدية في التعليم عندما كان وزيراً للتربية والتعليم العالي. أما مقالاته الرصينة التي سماها البعض "رصاصاته"! فقد وظَّفها في التنوير السياسي والدفاع عن الليبرالية والاتجاهات الديمقراطية، ونبذ الخرافات، وتحقيق المساواة، ورفض الاتجاهات القبلية والتحزُّبات التي تشوّهُ وجهَ الديمقراطية في بلاده الكويت، ما أدى إلى غضب الإسلاميين عليه. وكان للربعي حضورٌ فضائيٌ مؤثر، وكان ينطقُ دائماً بالحُجج الدامغة والإثباتات أمام خصومه، ولقد ساعدته ثقافتهُ الواسعة واطلاعه الكبير على مجمل الشؤون السياسية والثقافية في العالم، في الانتصار على معارضيه في الفكر السياسي. إنسانياً، يمتلكُ الربعي روحاً شفافة وملكاتٍ اتصالية مؤثرة، وكان دائمَ السؤال عن زملائه الخليجيين، يناقش همومَهم. ولقد كان له موقف مؤثر معي عندما ادْلهمَّت الخطوب في ساحتي قبل عام!؟ عندما يغادرنا الربعي وأمثالهُ من أهلنا في الخليج نحزن بلاشك، ونتألم، لأن الرجال المخلصين المؤمنين الثابتين على مواقفهم قليلون في هذا العالم. ولأن دعاةَ الإصلاح المناضلين من أجل الآخرين، النابضة قلوبهم بالإيثار والتضحية من أجل الآخرين، لا يفكرون في المكاسب المادية قدر اهتمامهم بالشؤون العامة التي تحقق للإنسان مكانته الآدمية، وسط أنظمة حكم انتقائية وحساسة جداً في مسألة الليبرالية، ويعتمد بعضها على تصانيف القبلية والتصنيف العرقي ما يشتّت لحمة المجتمع، ويعرقل مشاريع التنمية أو يقربها لبعض الناس على حساب كل الناس ؟! عندما يغادرنا للأبد الدكتور أحمد الربعي فإننا نتأثر، لأن جيل السبعينيات -في ظروف كثيرة- هو جيل معاصرة التحولات السياسية والاقتصادية والثقافية! وهو الجيل الذي لم يرتهنه النفطُ وعوائدُه! ولم يُربط إلى وتدِ الدولة! بل ظل هذا الجيل -حتى في ظل أفياء الدولة- مناضلاً ومدافعاً عن الحريات السياسية والعدالة الاجتماعية وحقوق المواطنين! كما كان للربعي حضورٌ فاعلٌ في المجالس والديوانيات، ولقد التقيته أكثر من مرة في منزل السفير القطري بالكويت. عام 1995 تعرَّض الربعي لأشرس استجواب في مجلس الأمة (وهو الذي تقدم به العضو مفرج نهار) بشأن مخالفات في جامعة الكويت عندما كان الربعي وزيراً للتربية والتعليم. وقد رد الربعي على الاتهامات والقضايا التي وردت في مضبطة جلسة يوم 14/2/1995، وفند الادعاءات حول موضوع الإسكان موضحاً أن ما تقدم به العضو كان "تهماً جزافية". ودافع الربعي عن موضوع ملاحظات ديوان المحاسبة (لجامعة الكويت) وموضوع (البعثات الخارجية والتعاقدات)، حيث قال عنها إنها تتكرر منذ سنوات، وليس فقط أيام استوزاره!؟ لقد أعجبتني نهاية مداخلته في ذاك الموضوع، حيث قال: "في الختام أقول إن الجهد الذي يبذله الإنسان من أجل وطنه، وعلى رأس هذا الجهد، حماية المال العام، ونظافة اليد واللسان، لا يطلب من ورائه إرضاء أحد، فهذا عمل خالص لوجه الله والناس. لقد قلت عندما تسلمت حقيبتي الوزارية إنني دخلت هذه الوزارة بثوب أبيض، وسأخرج منها بثوب أبيض"! وبالفعل، خرج الربعي من دنيانا بثوب أبيض، وسَجَّل له التاريخ المواقفَ الجميلة الرجولية التي يتمناها كل إنسان. وعندما نقول إن موتَ الربعي استثنائي فإننا نفقد برحيله إنساناً وعالِماً وشاعراً ذا مدارك واسعة، وله حضور حتى في مجالس الحكام في الخليج على رغم مواقفهِ التي قد تزعجُهم أحياناً، شأنه شأن بعض الذين يقولون كلمة الحق! قرأت العديد من كلمات الرثاء بحق الفقيد أحمد الربعي على الإنترنت، وكلها دعوات صادقة من محبي المرحوم، وهو شيء يستحقه. هكذا إذن؛ عندما يرحل عنا الاستثنائيون يتركوننا مع الذكريات والحزن العميق. وقدرُ الربعي أن له من الأصدقاء الذين تكفيه دعواتهم الصادقة أن يكون في جنة الخلد مع الأبرار والصديقين، وتلك منزلة تستعصي على الكثيرين. رحم الله الربعي، وألهمَ أهلهُ الصبر والسلوان!