كتب الفيلسوف الفرنسي كوندورسيه من القرن الثامن عشر ما اعتُبر مبدأ حاسماً في الموقف من "المساواة" بين الناس جميعاً: إما أن لا يكون حق حقيقي لأحد من الناس، وإما أن يكون لكل فرد حق مساوٍ لحق الآخر. ومَنْ جرّد غيره من حقه مهما كان دينه ولونه أو صنفه، فقد داس بقدميه حق نفسه". ذلك موقف تعزز في التاريخ السياسي الثقافي والسوسيولوجي لمعظم شعوب العالم الحديث، وذلك حيث راح "الإنسان" يبرز بمثابته قيمة مهمة بذاتها، أي بغض النظر عما تُمليه النظم الاقتصادية والسياسية والمجتمعية الطبقية. وقد خصص الفيلسوف المذكور مبدأه المعْنِي في حقل الأطفال، بحيث اتضح له أن من مقومات "إنسانية" الإنسان أن يكون هذا الأخير سيد نفسه في الحرية والمساواة، ومن ثم أن تكون هاتان القيمتان منطلق تربية الأطفال وتكوينهم. وبالانتقال من الأطفال إلى النساء، يجد الباحث نفسه أمام انتقال من حقل إلى آخر يمثل امتداداً له: إذا كان الأطفال لا يمكن تربيتهم وتكوينهم، بالكيفية الحقيقية، خارج تينك القيمتين، فإن الأمر نفسه يبرز في حقل النساء. فهؤلاء تصبحن الفاعل والمفعول، فهنّ تقُمن -بفعل التربية الموجَّه إليهن وإلى أطفالـ"هنَّ"- بإنتاج علاقة تربوية تنسحب على الفريقين المذكورين على نحوٍ جدلي مفتوح. لم يبحث كوندورسيه المسألة بخصوصيتها النسائية ولكنه في المبدأ الذي صاغه على صعيد مسألة المساواة، قدم إمكانية أو ضرورة سحبه على النساء كما على الناس أجمعين. ها هنا، تبرز المأساة الدامية، التي اتسمت بها قضية تحرير المرأة تاريخاً، مع استمرارها راهناً. وفي هذا المعْقد من المسألة، تُفصح عن نفسها الذكرى الثامنة والتسعون لمؤتمر النساء، الذي انعقد عام 1910 في كوبنهاغن، واكتسب من ذلك الحين طابعاً عالمياً هدفه الحث على التضامن مع نساء العالم في كفاحهن من أجل حقوقهن المدنية والسياسية وغيرها. لكن المناسبة المذكورة تكتسب في هذا العام أهمية نوعية خاصة على الصعيد العربي، تحديداً. ها هنا، نضع يدنا على أحوال من التراجع في الحقل المعني (إذعاناً للتراجع العربي العمومي)، تضعنا أمام تساؤل مثير عما إذا كان التاريخ يسير إلى الأمام أم إلى الخلف. وملاحظ أن هذا التساؤل ذو طابع ساذج، نظراً إلى أن الحقيقة التالية أصبحت قائمة في معظم الأوساط الاجتماعية، وهي أن كلا التقدم والتأخر مفهومان نسبيان، وأنهما حيث يحدثان، فإنهما لا يتلخصان بخط إلى الأمام وآخر إلى الوراء. ويزيد الموقف تعقيداً أن العولمة في محاولتها اجتياح العالم عبر خطّيْ التّسليع والتنميط، أحدثت خربطة مثيرة في منظومات المفاهيم والقيم والأشياء، وخصوصاً في التأسيس لثنائية الما قبليات والما بعْديات. ونود أن نتناول تناولاً رفيقاً واحداً من أمثلة غزيرة في حقل النساء، اللواتي يعشن ظروفاً خطيرة وتوصِل إلى حدّ السيف، إذا تجاوزن خطوطاً حمراء معينة. وثمة دراسات تظهر أن تلك الخطوط إذا ما وجدت (وهي موجودة بكثافة)، فإنها تصدع "خطاب المساواة" بين الرجال والنساء، في بلد أو آخر وضمن واحدة أو أخرى من الطوائف الدينية الموجودة في البلدان العربية. وعبر مثالين اثنين، يتضح بعض ذلك من خلال قوانين الأحوال الشخصية. أما في المثال الأول، فنجد في قانون الأحوال الشخصية السورية، مادة 264، أن "المسيحي لا يرث مسلماً، وأن المسلم لا يرث مسيحياً". ومعنى ذلك، كما تقول محامية (ضمن جريدة النور الدمشقية، 5 مارس 2008)، إن "المرأة المسلمة ترث زوجها المسلم. لكن الزوجة المسيحية التي زوجها مسلم، لا ترثه". أما المثال الآخر فيتجسد في واحدة من أكثر صيغ القتل وحشية ودموية، ويقوم ذلك على زواج يحدث بين فتاة من طائفة الموحدين ورجل من خارجها.، فهذه المرأة تُعرّض نفسها للقتل على أيدي ذويها، عقوبة لذلك. ومع أن ممثلي الطوائف (ومن ضمنها الطائفة المذكورة) يرفضون القتل، إلا أن هذا الأخير يحدث، دون أن يلقى منفذوه عقوبة من الدوائر المختصة في الدولة. فالطرف الأول المعني لا يتدخل لإيقاف القتل، والطرف الثاني لا يعاب مرتكبوه، أما الضحية فتمثل "صرخة صامتة" تذهب مع الريح. ومع أن المثالين المقدَّمين تواً لسيا إلا حالتين من ألوف الحالات، إلا أنهما تلخّصان الموقف من قيمة المساواة على صعيدي المرأة والرجل، ولك أن تتصور، بعدئذ، أن مشاريع الإصلاح الديمقراطي لم تُحدث في العالم العربي أكثر من أصداء متضائلة، حينذاك لابد من التساؤل عما ينبغي أن ننجزه، قبل "طلقة الرحمة".