لا جدال في تاريخية زيارة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد للعراق الأسبوع الماضي، على اعتبار أنها الأولى من نوعها، وهذه تكفي لإعطاء الزيارة فرادتها وتميزها. وقد رافقت الزيارة ملاحظات لا يمكن إغفالها، وهي ملاحظات تتجاوز الابتسامات مع "مام" جلال طالباني -الرئيس العراقي، كما أنها تتجاوز توقيع مذكرات التفاهم السبع على التعاون بين البلدين في مجالات اقتصادية واجتماعية وثقافية مختلفة، فكم وقع صدام من معاهدات واتفاقيات أصبحت أثراً بعد عين. لكنّ للزيارة أبعاداً أخرى، فقد جاءت والعراق محتل، وإيران من أعلى الأصوات المطالبة بإنهاء الاحتلال الأميركي له، بل إن نجاد في بغداد قد كرر هذا المطلب مثيراً تساؤلات حول جدية هذه المطالبة: كيف تزور رسمياً بلداً وأنت رئيس بلد آخر وتطالب بإنهاء احتلاله؟ أوليست زيارة نجاد اعترافاً وإقراراً ضمنياً بشرعية الاحتلال؟ وهل يمكن لنجاد زيارة مناطق السلطة في فلسطين على الرغم من أنها محتلة، وعلى الرغم من مطالبة نجاد المتكررة بإلغاء دولة إسرائيل برمتها وشطبها من الخريطة؟ إذا كان الاحتلال واحداً، فما المانع من زيارة فلسطين حتى، وإن كانت تحت الاحتلال؟ الزيارة ما كان لها أن تتم لولا تنسيق أمني أميركي- إيراني لحماية رئيس إيران -محور الشر- من قبل قوات "الشيطان الأكبر" أثناء الزيارة. وعليه فإن نجاد أظهر شعوراً بالاطمئنان والأمن ببغداد دعماً لحكومة حليفه نوري المالكي، ولكن طمأنينته تأتي لثقته بأن الأميركيين لن يتعرضوا له من جهة، أو ربما لعلمه بأن من يثير القلاقل الأمنية ويطلق الصورايخ على المنطقة الخضراء ببغداد هم حلفاؤه وميليشياته التي يسلحها (شيعة وسُنة) كما ذكر الجنرال راي أوديرنو -القائد العسكري الثاني للقوات الأميركية في العراق: "كلما زارنا أحد من الولايات المتحدة الأميركية أوقفنا هجوماً أو يحدث هجوم بالصواريخ، أتدرون لماذا؟ لأن من يقوم بها عملاء إيرانيون يهاجمون اجتماعات الحكومة العراقية بالصواريخ، لكن ليس خلال زيارة نجاد؛ لأن من يقومون بالهجمات هم عناصر تدعمها إيران". ما لم يتسرب من الزيارة هو مسألة "مجاهدي خلق" المعارضة التي لا تزال موجودة على الأراضي العراقية. كان يمكن "لكاكا" جلال طالباني أن يعلن إنهاء وجودهم رداً للجميل الإيراني الذي استضافه أيام المعارضة، ولكن لأن ورقة "مجاهدي خلق" أميركية- فرنسية، فلن يتم التخلي عنها بطلب من عراقي. يذكر أن فرنسا كانت آخر محطات الخميني قبل العودة إلى إيران، وبأن فرنسا ساركوزي أكثر تشدداً تجاه إيران من سابقاتها، والحملة المتعلقة بحقوق الإنسان في إيران تشتد أوروبياً منطلقة من فرنسا. استثنت الزيارة مدينتي النجف وكربلاء في اللحظات الأخيرة على الرغم من أنهما كانتا مدرجتين في جدولها، ولا يمكن للمراقب إغفال ذلك الاستثناء لما للمدينتين من أهمية روحية وتاريخية في المذهب الشيعي، كما أن مرجعية الغالبية العظمى من الشيعة العالم -الإمام السيستاني- موجود في النجف، وتسربت تقارير بأن السيستاني رفض استقبال نجاد، فإن صدقت هذه التقارير فإن للزيارة بعداً مذهبياً آخر: المدرسة التقليدية النجفية تعارض إيران وولاية الفقيه على أعلى المستويات. وهذه رسالة مهمة وقوية وشجاعة، وتذكير لبعض طائفيي السُّنة بعدم التعميم على الشيعة ونعتهم بالولاء والتبعية لإيران دوماً. وقيل إن استثناء النجف وكربلاء جاء بعد تسرب معلومات أميركية بخطورة الوضع الأمني على الرئيس نجاد. الرسالة كانت واضحة، نحن من يؤمِّن لك الزيارة ويحدد سيرها واتجاهها. زيارة نجاد لبغداد ما كان لها أن تتم لولا الحماية الأمنية الأميركية التي وفرتها القوات الأمنية وضمنت سلامتها. عملياً، نجاد زار مناطق تقع تحت النفوذ والسيطرة والحماية الأميركية، تماماً كواشنطن!!