مازالت غزة غصَّة في القلب، وغزة فيه. جراحها تدمي أهلها وتدمي قلوب المتفرجين عليها من باقي شعبها كما شاهد المسيحيون الأوائل واليهود والرومان معاناة المسيح بدم بارد، ولا حيلة لهم إلا الأسى والبكاء وهو يقول "اللهم اغفر لقومي". فالمواقف ثلاثة بالنسبة لمحرقة غزة الدائرة الآن. الأول الصمت المطبق من بعض الحكومات أو بعض الشعوب وكأن الأمر لا يعنيها، وكأن الفلسطينيين قد لحقوا بمجازر الإبادة المعروفة في التاريخ مثل إبادة المهاجرين الأوروبيين خاصة للهنود الحمر في نصف الكرة الغربي، وفي أستراليا في نصف الكرة الشرقي. وصمتت بعض الحكومات لأنها لا تستطيع فعل شيء. فهي محاصرة بين الداخل والخارج، بين غضب شعوبها وإغضاب الولايات المتحدة. تأثرت شرعيتها في الداخل، وبحثت عن شرعية بديلة في الخارج. مع أن حرب أكتوبر 1973 مازالت في الأذهان، فلتة قد لا تتكرر. كانت قراراً حكومياً بين مصر وسوريا. وكان التأميم قبلها في 1956 قراراً حكومياً. تخشى أن تسحب أميركا منها الدعم الخارجي، وتخشى أن تعيد إسرائيل العدوان فتفرِّط في الاستقلال الوطني. تخشى الأنظمة العربية من اكتساح شامل للأوطان في مصر وسوريا والأردن ولبنان، دول الجوار. فالعرب في أضعف لحظاتهم، غير قادرين على تشكيل حكومة في لبنان وانتخاب رئيس جمهورية. عاجزون عن مساعدة الأطفال والنساء والشيوخ المضرجين بالدماء في محرقة غزة. واحترام معاهدات السلام التزام دولي، إلغاؤها بمثابة إعلان حرب، والمطالبة بتعديلها إعلان عصيان على النظام الدولي والمعاهدات الدولية، وكأننا لم نقم بإلغاء معاهدة 1936 من قبل في النظام الملكي. أما صمت الشعوب الذي ليس له ما يبرره فهو تعبير أيضاً عن الإحساس بالعجز والتعود على رؤية ما يشاهَد في فلسطين منذ الاحتلال والانتفاضات الأولى والثانية والثالثة. تعودت على بلع الإهانات وتبلد الحواس. يكفيها الغلاء والعجز عن العيش والسعي وراء الخبز. قد تئن فيما بينها وبين نفسها. ويعتريها الغضب الصامت وتستسلم للأقدار. إن لغزة رباً يحميها. والنظام الدولي صامت ويعجز مجلس الأمن عن إصدار قرار ضد قتل المدنيين طبقاً لمواثيق الأمم المتحدة، أطفالاً ونساءً وشباباً وشيوخاً. في حين يسرع في إصدار قرار لفرض عقوبات على إيران بالرغم من تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة النووية. فمن لغزة؟ النظام الإقليمي، أم النظام الدولي؟ وقد يخرج الصمت إلى الكلام، والغضب الداخلي إلى صوت رقيق في الخارج عن طريق الإدانة والشجب الذي تفعله بعض الأنظمة العربية في عقودها الأخيرة. هو مجرد إبراء ذمة، وتعبير عن نوايا، ورفض بالقلب وباللسان وهو أضعف الإيمان. والإعلام العربي يعبِّر عن نفس الموقف بالكلمة المقروءة والصورة المرئية وتحليل الأخبار ورصد المواقف مما يزيد من الغضب المكتوم والإحساس بالعجز وامتهان النفس وتعميق الشعور بالذل والهوان وضياع الكرامة في ثقافة عربية قامت على العزة والإباء والشهامة ونصرة الضعيف وإكرام الضيف. وفي ثقافة إسلامية تنصر الجار والأخ وتُسمع على المنابر أحاديث مثل "المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً" و"الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه". وإذا كان هناك قليل من الفعل فمن الجماهير التي انطلقت في مظاهرات عارمة، مظاهرات الفلسطينيين في مخيمات لبنان وسوريا والأردن، ومظاهرات أشقائهم العرب في دمشق والخرطوم، ومظاهرات الطلبة داخل الحرم الجامعي في القاهرة. لم تساوِ المظاهرات التي قامت في اليمن والكويت وباكستان ضد الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، في الدانمارك والمناداة بتكرارها في باقي الصحف الأوروبية بدعوى "حرية الصحافة"، كما انضمت النقابات والاتحادات والجمعيات الأهلية في عقد المؤتمرات داخل مقارها. وبقيت باقي العواصم العربية صامتة وهي التي تعودت على الخروج إلى الشوارع من قبل في المغرب واليمن والبحرين والكويت وموريتانيا. وتكفي العراق محنة الاحتلال. ولم ينفعه نداء محمود درويش "حاصروا حصاركم". فأين الفعل؟ أين ما يسميه علماء الاجتماع الفعاليات الاجتماعية الجديدة؟ هناك ثلاثة احتمالات: الاحتمال الأول جيل جديد قادر على إنقاذ الثورة المصرية والثورات العربية من الانقلاب عليها منذ وفاة عبدالناصر بدعوى التصحيح. فمازال تراث الضباط الأحرار الوطني في قلوب الشباب. ومازالت البواعث والظروف التي أنشأت الجيل الأول مستمرة وممتدة إلى هذا الجيل، ضياع النصف الثاني من فلسطين في 1967 بعد ضياع النصف الأول في 1948، الفساد الداخلي، الباشوات، والباشوات الجدد، تجار الحديد والإسمنت ومهربو الأموال إلى الخارج ورجال الأعمال والقطاع الخاص، والاحتلال للأوطان، بريطانيا أولاً مع مصر والعراق واليمن والأردن، وأميركا ثانياً للعراق. وقد يستأثر فريق بالعمل وحده فتتكرر مأساة الانفراد بالحكم وتهميش الآخرين أو زجهم في السجون. قد يخشى البعض من هذا الاحتمال دفاعاً عن الحريات، ولكن الدفاع عن الكرامة لا يقل أهمية عن الدفاع عن الحريات. فحرية شعب فلسطين من الاحتلال الخارجي، وحرية المواطن العربي من القهر الداخلي، لا تنفصلان. والثاني الاتحادات والنقابات والجمعيات الأهلية والنوادي مثل نادي القضاة، القادرة على التجمهر والتظاهر والتعبير عن وجدان الشعب. وهو اختيار نخبوي يصعب تحويله إلى حركة جماهيرية في الشارع. لا يخرج من داخل جدران المقار إلا في حدود. يحاصرهم الأمن المركزي. ولا تتعدى أخبارهم صحف المعارضة والقنوات الفضائية والرأي العام العالمي والضغوط الخارجية. وتحاول النظم السياسية إيقاع الفرقة بينهم بالتلويح ببعض المكاسب الفئوية، ويُخيَّرون بين سيف المُعز وذهبه. والثالث الهبَّات الشعبية ليس بسبب فلسطين مباشرة ولكن بسبب الغلاء وارتفاع الأسعار والفقر والبطالة والإسكان من ناحية، وفساد بعض رجال الأعمال والسلطة من ناحية أخرى. وتحتاج هذه الهبَّات إلى عصب يوجهها ويقتطف ثمرتها. وقد يرى البعض احتمالات أخرى مثل يقظة المصريين وكرامة العرب حتى داخل الحزب الحاكم، وظهور المهلهل في زماننا للانتقام لمقتل أخيه كليب. فمن يدري ماذا يدور تحت الأرض؟ وقد يتنبأ فريق ثالث بهبَّة شعبية إثر تدخل عسكري أميركي- إسرائيلي لضرب لبنان أو سوريا لتحقيق انتصار عسكري لتغطية فشل العراق وأفغانستان ولأسباب انتخابية محضة في آخر سنة للإدارة الأميركية الحالية. وفي كل الأحوال يمر الوطن العربي بمرحلة مخاض جديدة، يتحول فيها من عصر إلى عصر. فقد انقضى عمر الثورة العربية الأولى منذ أوائل الخمسينيات، وهو ما يزيد على نصف قرن، لتبدأ دورة تاريخية ثانية في نصف القرن الذي يليه. الأعداء هم الأعداء، الاستعمار والصهيونية في الخارج والفساد والطائفية والمذهبية والعرقية في الداخل. والوطن هو الوطن. يفرِّخ الوطنيين من كل جيل. مازال المستقبل مجهولاً، مفتوحاً على كل الاحتمالات. المهم أن التخصيب قد تم، والحمْل قد ظهر، ولكن السؤال: ولادة طبيعية أم عملية قيصرية؟ ذكر أم أنثى؟ طفل صحيح أم مشوَّه؟ ولادة أم إجهاض؟ ولادة الطفل أم وفاة الأم؟ وتختلف الاختيارات بين المتشائمين والمتفائلين. قد ينشط الخيال السياسي العربي من جديد ويبدع طرقاً جديدة للتحرر. فالتاريخ في النهاية قصة حرية.