غيبك الموت يا أبا قتيبه! أنت مت ونحن كلنا ميتون، هكذا هي سنة الحياة، من عاش مات وإن عمّر... لكن غيابك وقع في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إليك، وتحديداً إلى عقلك وفكرك وتفكيرك، كم عدد من هم بيننا وأدواتهم في التحليل والفهم أداة عقلية وعلمية؟ آه ما أخبث السرطان! عرفت الآن لماذا تسمي العجائز هذا المرض "بالخبيث". إنه خبيث ولئيم، أصابك في المخ يا أبا قتيبة، لقد أمعن الخبيث في خبثه، فقد أصابك بما تميزت به أيّما ميزة. وكأنما الخبيث كان يدرك عهدك الذي قطعته منذ أن كنت فتى يافعاً بالانحياز للعقل والفكر. تراجع كثيرون، وضاعت بوصلة آخرين أكثر، لكن ملاحك العقلي لم يخذلك قط، بقي وفياً لك وفاؤك له... كان العقل مئزرك الذي لازمك في جبال صلالة بعمان ثائراً حالماً وأنت مراهق صغير، كم سردت لنا من ذكرياتك الحالمة تلك، وكم سجلت لنا من لحظات تلك المرحلة التي غادرتْ إلى غير رجعة. ومنها إلى جامعة هارفارد باحثاً عن الفلسفة الإسلامية، فنائباً تحت قبة البرلمان، فوزيراً لم تغيرك الكراسي. أذكر أول زيارة لك في مكتبك وزيراً، والعبارة التي اعتلت الحائط خلفك: "على هذا الكرسي جلس من كان قبلك، وعليه سيجلس من سيأتي بعدك". كان العقل محبرة قلمك الذي خط الفكرة تلو الفكرة في صحيفة "السياسة" بداية السبعينيات إلى "الوطن" في الثمانينيات فـ"القبس" في التسعينيات، ثم صحيفة "الشرق الأوسط" على امتداد العالم كله. آه يا أحمد! "المنابر كلها مشتاقة لك"، وكذا ساحات الوغى الفكرية والنيابية تحت قبة عبدالله السالم بمجلس الأمة الكويتي. كم خضت من المعارك الفضائية، ترد بالحجة على الحجة، وترصف الفكرة تلو الفكرة مدافعاً عن رأيك وعما كنت تعتقد أنه الحق. كم تلعثم المفترون أمامك، وكم "تبلعم" الفجار في الخصومة ممن ظلموا الكويت، وكنت خنجراً في حنجرة الفرية، وسيفاً في وجه الادعاءات المزورة... وكم كنت فارساً في خصومتك، ولم تفجر بها يوماً، وكنت تقول لي: لا يفجر في الخصومة إلا الضعيف والجبان! ستفتقدك أمواج البحر الذي تتغزل به، وستتلاحق الأمواج تحسباً لساعاتك الصابرة ممسكاً بالخيط كي تصطاد الصبر سمكاً، وسوف تحن إليك كثبان الدهنا والصمان حين نرحل إليها في رحلتنا السنوية "للغاط" في قلب نجد. كأني بصدى قهقهاتك وضحكاتك وترديد قفشاتك يحوم في النفود لا يبرحها حتى تحل الرحلة القادمة، لاستبدالها بقفشات ونكت وأفكار جديدة. كانت الرحلة السنوية بالسيارة مدرسة تحكي لنا أثناءها قصص وملاحم ذاتية، من تجربتك، وتقدم لنا دروساً في معارك الجدل العلمي، وزاداً في وادي العقول الموحشة نتسلح به. إيه أبا قتيبة! تفتقدك الكويت التي أحببتها بكل لحظة من عمرك، وبكل حبة رمل من رحلتك في الحياة. ستفتقدك الديرة -يا أحمد- من "فرجان" المرقاب القديمة، إلى مزارع الجهراء في سني طفولتك المبكرة. كان إيمانك بالعلم طبشورة محاضراتك الجامعية لطلبتك. في أروقة الكلية، يسألني طلبتك عنك ممن تتلمذوا على يديك، ونهلوا من تجربتك الثرية: "شلون الدكتور أحمد؟". سبورة قاعة المحاضرات تنتظرك الآن شوقاً لسطر أفكارك على صفحتها، وتتحرق لعباراتك الفلسفية التي تزين بها وجهها حين تحولها إلى مرآة لأفكارك متعة لطلبتك الناظرين. عزاؤنا بما حفرت من أفكار، وما رصفت من أفكار، وبما غرست من مثل في العطاء الفكري العلمي الملتزم... لكني افتقدتك كثيراً يا أبا قتيبة... وداعاً يا صديقي... وداعا أحمد الربعي.