هناك فرق كبير بين أن يأخذ شعب ما العِبر ويستفيد من تجارب التاريخ ويُسخِّرها لبناء المستقبل، وبين أن تعيش شعوب أخرى في الماضي وتعيد اجترار صراعاتها وتضع العراقيل أمام بناء مستقبلها. الجزء الثاني من الفقرة السابقة ينطبق تماماً على معظم الشعوب العربية التي تعيش الماضي وتحاول إحياء صراعات مضت عليها مئات السنين، وأصبحت كافة أطرافها في ذمة الله وهو وحده القادر على محاسبتها. مثل هذا الوضع بحاجة لمعالجةٍ من عِلم النفس الحديث لتحديد الأسباب النفسية التي تدفع بملايين البشر لمحاولة إحياء صراعات قديمة ليست لها علاقة بحاضر أو بمستقبل هذه البلدان في ظل العولمة وانفتاح الأسواق والإنجازات العلمية والتقنية المتلاحقة وتحول العالم إلى قرية صغيرة. هل لذلك علاقة بعجز هذه الشعوب عن تحقيق أي إنجاز في العصر الحديث ومساهمة بلدان العالم الأخرى وتطورها التقني والعلمي، وبالتالي فإن الهروب إلى الماضي يشكل أحد المخارج لهذا التدهور في الأوضاع العربية العامة؟ أم هو الفراغ والبطالة والجهل وتدني مستوى التعليم التي تدفع بالملايين في البلدان العربية للبحث عن مخارج لتحقيق الذات بعيداً عن العمل المنتج والإبداع الفكري والعلمي والمساهمة في الابتكارات التي تؤدي إلى تقدم البشرية والقضاء على الأمراض وتحسين المستوى المعيشي للبشر؟ أو أن هناك أسباباً أخرى تكمن في جينات الثأر التي لا يمكن للسنوات الطويلة أن تمحوها. إنه أمر مُحيِّر فعلاً، عندما تتابع أخبار العالم المتقدم تتفاءل بمستقبل الإنسان، فالاكتشافات شبه يومية في كافة المجالات، وبالأخص في مجال الصحة العامة والطب وتقنية المعلومات والفضاء، في حين تصاب بالغثيان من متابعة الصراعات ذات الطابع التاريخي التي تحكم شعوب منطقتنا فيما بينها. في هذا السياق اتهم الاستعمار بأنه السبب في تأخر الشعوب العربية، وها هي البلدان العربية تتمتع بالاستقلال منذ 50 عاماً ولم يستطع معظمها تحديد مساره التنموي للقضاء على الفقر والبطالة، في الوقت الذي استطاعت هونغ كونغ تحقيق معجزة اقتصادية في ظل استعمار بريطاني امتد حتى الأمس القريب، أي حتى عام 1997. هل كان الاستعمار هو الشمَّاعة التي علق عليها العجز الداخلي والخلل الكبير في بنية المجتمعات العربية وارتباطها بالماضي أكثر من تطلعها للمستقبل؟ أسئلة ربما يستطيع المؤرخون الإجابة عليها في المستقبل. إن ما يتم الآن في بلدان مثل لبنان والعراق، والمرشح للامتداد لمناطق أخرى في المنطقة، هو تدمير ذاتي لكل مقومات الحياة، ولن يؤدي إلى حسم أية صراعات تاريخية لا يتحمل كافة أبناء الجيل الحالي أية مسؤولية عنها، بقدر ما سيؤدي إلى تدمير هذه البلدان وإرجاعها سنوات طويلة إلى الوراء، وليس أدل على ذلك من الحرب الأهلية اللبنانية في سنوات السبعينيات والثمانينيات التي أرجعت جميع اللبنانيين إلى المربع الأول بعد أن أكلت الأخضر واليابس. لنتصور ولو للحظة واحدة أن الشعب الأميركي استرجع الصراعات بين الشمال والجنوب، التي أدخلته حرباً أهلية قبل أكثر من 200 عام، أو نتصور عودة أوروبا للصراع بين الكاثوليك والبروتستانت والأرثوذكس، تلك الصراعات التي قُبرت للأبد وفتحت الأبواب واسعة أمام أميركا وأوروبا لتحقيق إنجازات علمية وتقنية لم يكن بالإمكان تحقيقها لولا السلم والاستقرار الاجتماعي الذي أدى إلى رفع المستوى المعيشي للسكان وتحقيق مجتمع الرفاهية. بيانات الأمم المتحدة والمؤشرات الاقتصادية تشير إلى تفاقم مسألة البطالة في العالم العربي، وتشير إلى تدني مستويات المعيشة، حيث يكمن الحل في الاستقرار والسلم الاجتماعي والشفافية وتسخير الثروات للتنمية وخلق فرص عمل ووضع التشريعات التي تساهم في جذب رؤوس الأموال، مع تجاوز عقدة الصراعات التاريخية التي تعبر عن العجز في مواجهة المستقبل. وفيما عدا أوروبا، فإنه يمكن الاستفادة من تجربة دولة الإمارات التي وضعت نفسها بقوة على خريطة العالم الاقتصادية في فترة زمنية قصيرة نسبياً، بل إن الكثير من شعوب العالم تنظر إليها حالياً، كتجربة تنموية يُقتدى بها والأحرى أن تستفيد شعوب المنطقة العربية والإسلامية من هذه التجربة التي تنظر إلى المستقبل وتساهم في بنائه.