الحديث عن أحزاب وحركات إسلامية على وجه العموم لا ينتج معنى ولا يثمر معرفة. فكما تختلف بلاد العرب في كثير من ظروفها، تتباين هذه الأحزاب والحركات من بلد إلى آخر. كما أنه في معظم هذه البلاد يوجد تعدد في التيارات الإسلامية معلناً أو مضمراً، مقنناً أو غير مقنن. ولذلك يستحيل أي حديث جاد عن مستقبل الأحزاب والحركات الإسلامية كلها حتى إذا اقتصر على تلك التي شاركت في الانتخابات العامة والمحلية أو البلدية، وأصبحت ممثلة في المجالس المنتخبة بنواب يكثر عددهم كما هو في حال "الإخوان المسلمين" في مصر الآن مثلاً (نحو 20% من مجموع أعضاء مجلس الشعب)، أو يقل على نحو ما صار إليه تمثيل حزب "جبهة العمل الإسلامي" في الأردن بعد أن انخفض إلى نحو 6% فقط من أعضاء مجلس النواب. ورغم أن معظم الأحزاب والحركات الإسلامية التي اعتادت المشاركة في الانتخابات تنتمي إلى تيار "الإخوان المسلمين" الذي نشأ في مصر عام 1928 وانتقل منها تدريجياً إلى كثير من بلاد العرب والمسلمين، فما يفرق بينها أكثر مما يجمع. وليس ثمة دليل على ذلك أقوى من إجراء مقارنة بسيطة سريعة بين حالتي جماعة "الإخوان المسلمين" في مصر و"حركة مجتمع السلم" (حمس) في الجزائر. فهما حالتان على طرفي نقيض تقريباً من حيث موقع كل منهما في النظام السياسي. فالأولى تعمل بحكم الأمر الواقع وتفتقد أي كيان قانوني، ويُطلق عليها خصومها "الجماعة المحظورة"، ولا يمر شهر في الوقت الراهن بدون إلقاء القبض على بعض قيادييها وأعضائها، ويَمثُل نائب مرشدها العام (الذي يعتبر رمزاً لمختلف حركات "الإخوان" بما في ذلك حركة "حمس") مع عدد من رموزها أمام القضاء العسكري الآن. أما الثانية فهي تتمتع ليس فقط بوجود قانوني، ولكن أيضاً بنفوذ قوي من خلال مشاركتها في الائتلاف الحاكم في الجزائر الآن. ورغم أنها الشريك الأصغر في هذا الائتلاف الثلاثي، فهي تعتبر من أحزاب الحكم على أي حال، بخلاف جماعة "الإخوان" في مصر والتي لم تحصل حتى على فرصة أن تكون ضمن المعارضة المشروعة المسجلة قانوناً. فكيف يمكن أن نضع مستقبل جماعة طريقها إلى المعارضة المعترف بها مسدود، وأخرى فُتح طريقها إلى المشاركة في السلطة، في السياق نفسه حتى إذا كان المطلوب هو توقع ما سيكون عليه موقعهما في العمل البرلماني مستقبلاً. وإذا كان الفرق في هذه المقارنة هائلاً، فهو كذلك أيضاً إذا قارنا بين حالتي حركة "حمس" في الجزائر وحركة المقاومة الإسلامية "حماس" في فلسطين، رغم أن الفرق بينهما في الاسم المختصر لكل منهما هو حرف واحد (الألف) زيادة أو نقصاناً. والحديث هنا عن حركات "إخوانية" كلها، أي يربطهما انتماء عام إلى التيار العام لـ"الإخوان المسلمين" الذي امتد من مصر إلى المشرق العربي أولاً ثم إلى المغرب العربي. فلا يجمع بينهما، بخلاف انتمائهما إلى الإطار العام لذلك التيار، إلا أنهما حركتان حاكمتان. ولكن شتان بين وضع كل منهما في الحكم. فقد حصلت "حماس" على أغلبية مقاعد المجلس التشريعي في انتخابات يناير 2006، وقامت بتشكيل الحكومة في ظل أزمة حادة في العلاقة بينها وبين حركة "فتح". وأخذت هذه الأزمة في التصاعد، رغم وساطات عربية مصرية وسعودية وغيرها. ولم تنحسر الأزمة حتى بعد تشكيل حكومة وحدة وطنية. وانتهى الأمر بموقعة قطاع غزة بما أدت إليه من سيطرة "حماس" عسكرياً على القطاع وانفرادها بحكمه، في ظل انقسام ما بقي من أرض فلسطين إلى كانتونين أحدهما في هذا القطاع والآخر في الضفة الغربية. وحتى إذا استبعدنا حركة "حماس" من مشهد الحركات الإسلامية التي تبنت المنهج الانتخابي، باعتبار أن فلسطين المحتلة تمثل حالة خاصة، فلن يقلل ذلك من كم ونوع التناقضات التي يضج بها هذا المشهد. فلكأنك أمام خريطة تسودها مرتفعات جبلية وعرة ومنخفضات لا تقل وعورة، متعددة أشكالها، متناقضة أنواعها، بينما تخلو من أي سهل منبسط. وفي خريطة من هذا النوع، لا تجد أداة تحليلية أو منهجاً بحثياً، أو مدخلاً علمياً يساعد في بناء نسق عام يتيح استنتاج ما يمكن أن يكون عليه المستقبل. ولا سبيل، والحال هكذا، إلى قراءة موقع الأحزاب والحركات الإسلامية في النظم السياسية العربية في المستقبل، انطلاقاً من فرصها الانتخابية وإمكانات حضورها البرلماني، إلا عبر دراسة حالات هذه الأحزاب والحركات، كل على حدة، مع الحذر من التعميم بغير أساس. ومع ذلك لا يمكن أن تخلو هذه الدراسات من جانب عام يتعلق بالمشاكل التي تواجهها الأحزاب والحركات الإسلامية في الانتخابات. فالكثير من هذه المشاكل مشترك بينها، أو متقارب إلى حد كبير. وبعضها مشترك بينها وبين غيرها من الأحزاب والقوى السياسية، مثل السياق الانتخابي العام في معظم البلاد العربية. فهذا سياق غير طبيعي إلى حد كبير، لارتباطه بتطور ديمقراطي ذي طابع دائري لا يتقدم بمقدار ما يدور حول نفسه، ولاقترانه بتعدد حزبي وسياسي مقيد محكوم من أعلى، فضلاً عن عدم استقرار قواعد واضحة للعبة السياسة عموماً والعملية الانتخابية خصوصاً. وفي مثل هذا السياق، الذي لا يختلف في جوهره وإنما في بعض تفاصيله من مصر إلى الجزائر مثلاً، لا تستطيع حركة "حمس" أن تتوقع الظروف التي ستجرى فيها الانتخابات القادمة ولا الأجواء التي ستخيم عليها، رغم أنها جزء من الائتلاف الحاكم. وهى لا تختلف كثيراً على هذا الصعيد عن جماعة "الإخوان المسلمين" المصرية المفروض عليها حصار أمنى شديد والتي يتعرض أعضاؤها لملاحقات متواصلة. ولهذا السياق الانتخابي غير الطبيعي أثره العام على مختلف الأحزاب والحركات السياسية، بما في ذلك تلك التي تحكم، أو يُحكم باسمها في بعض البلاد. غير أن ثمة نوعاً آخر من المشاكل يرتبط بالأحزاب والحركات الإسلامية وحدها، ويؤثر على مستقبلها السياسي والانتخابي بشكل عام. فهذه الأحزاب والحركات تُخيف غيرها حيناً، وتُستخدم أداة للتخويف أو "فزاَّعة" حيناً آخر، دون أن تعطي اهتماماً أو تبذل جهداً كافياً للحد من هذه المشكلة التي أضافت إلى استثنائية السياق الانتخابي -السياسي العربي عاملاً آخر غير طبيعي. فقد ظل السؤال عما يمكن أن يحدث لو فازت إحدى الحركات الإسلامية بالأغلبية، مثيراً لقلق عام وإن تفاوت مداه في البلاد التي كان سهلاً فيها لهذه الحركات أن تحصد أخطاء نظم الحكم وقوى المعارضة الأخرى ونتائج السخط الاجتماعي والغضب السياسي في المجتمع. ولم ينج من هذه المشكلة إلا حركة "حمس" في الجزائر، والتي اتخذت موقفاً بالغ القوة ضد العنف الذي ضرب الجزائر طوال العقد الماضي ولعبت دوراً بارزاً في مواجهته، مع أحزاب وحركات أخرى، مما خلق جسوراً قوية بينها وبين نظام الحكم الذي ساندته عندما شل العنف الحياة في البلاد، لا لرغبة في رضائه وإنما لأن انهياره كان يعني هزيمة الدولة والمجتمع في آن معاً أمام الإرهاب. فقد قدمت هذه الحركة ما يؤكد أنها تضع المصلحة العامة فوق كل شيء، وهو ما لم تنجح فيه حركات إسلامية أخرى هاجم بعضها هذه الحركة عندما بدا له أنها أفرطت في مساندة نظام الحكم. وفيما نجحت "حمس" في أن تزيل في بلادها الصورة المخيفة التي ترتبت على ممارسات "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" حين اقتربت من الإمساك بالسلطة في ديسمبر 1991 فهدد بعض قادتها كل من يختلف معهم بالويل والثبور، مازالت هذه الصورة تخيف الكثير من الأحزاب والقوى السياسية في بلاد عربية أخرى وتطبع نظرتها إلى الإسلاميين في كل من هذه البلاد بطابع سلبي. وهذه مشكلة عامة بالنسبة للأحزاب والحركات الإسلامية. وهي إذ تعجز عن إزالتها في رأي البعض، أو تبدي لا مبالاة تجاهها في رأي آخرين، فهي تيسر استغلالها لفرض قيود على الحياة السياسية، وعلى العملية الانتخابية، عند الحاجة على نحو يضعف فرص التطور الديموقراطي في البلاد العربية التي تنشط فيها أحزاب وحركات إسلامية ذات أداء انتخابي قوي.