يبدو أن لكل رئيس وزراء إسرائيلي مجزرة خاصة به ضد الشعب الفلسطيني يتميز بها عهده عن من سبقه، ومن قد يخلفه. حتى "شيمون بيريز"، أكثر زعيم إسرائيلي يتحدث عن "السلام"، بعد وزير الخارجية الأسبق "آبا إيبان"، كانت له مجزرته أيضاً في قانا في لبنان. يتميز بيريز أيضاً بأنه الأب الروحي للترسانة النووية الإسرائيلية الموجهة نحو المدن العربية. مذبحة الأسبوع الماضي تخص "إيهود أولمرت"، وأسمتها حكومته إمعاناً في التميز بـ"عملية الشتاء الساخن". هذه المذبحة ضد فلسطينيي قطاع غزة تشبه كثيراً مذبحة "آرييل شارون" 2001-2002. آنذاك كان شارون ينتقم من انتفاضة الأقصى التي انطلقت على خلفية انتهاكه لحرمة المسجد القدسي الشريف. هذه المرة يريد أولمرت ووزير دفاعه "إيهود باراك"، الانتقام من صواريخ القسام التي تطلقها عناصر من "حماس" و"الجهاد الإسلامي" على مدينة سديروت الإسرائيلية. انتفاضة الأقصى، وصواريخ القسام تعبير رمزي عن المقاومة. المجازر الإسرائيلية، من ناحيتها، تعبر عن أشياء أخرى مثل عقلية الاحتلال، وما تنطوي عليه من حقد وكراهية. عبّر عن ذلك نائب وزير الدفاع الإسرائيلي عندما قال إن أهالي غزة موعودون بـ"المحرقة" انتقاماً من صواريخهم. لكن مذبحة غزة تعبر عن سياسة إسرائيلية راسخة. الأكيد أن الهدف منها ليس إسقاط حكومة "حماس"، لأن أولمرت لا يريد أن يساهم في إنهاء الانقسام الفلسطيني بين سلطتي غزة والضفة الغربية. هو يريد إيقاف صواريخ "حماس". لكن لماذا يلجأ لتحقيق ذلك إلى ارتكاب مجزرة ذهب ضحيتها خلال أقل من أسبوع أكثر من 115 قتيلاً، أغلبهم من المدنيين والأطفال، وأكثر من خمسمائة جريح، وإلى هذا الدمار المادي المخيف في مدينة تئن تحت الحصار والجوع؟ في السؤال شيء من المغالطة، لأنه يضمر معنى أن التمادي في رد الفعل الإسرائيلي إلى حد ارتكاب المجزرة بحق المدنيين شيء استثنائي، في حين أن الأمر ليس كذلك على الإطلاق. على العكس، تأتي مجزرة أولمرت امتداداً طبيعياً لسياسة إسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، لم تتغير منذ قيام الدولة العبرية قبل ستين سنة. افتتحت هذه الدولة تاريخها بالمذابح، وها هي على أعتاب سنتها الستين تحتفل بالمناسبة بمذبحة جديدة. اللافت هنا أن حكومة أولمرت اختارت مذبحتها هذه المرة بعد مؤتمر آنابوليس، واختارتها وهي تتفاوض مع سلطة فلسطينية تخلت عن المقاومة العسكرية تأكيداً لتوجهها السلمي، ووسط إجماع عربي ودولي (باستثناء الولايات المتحدة الأميركية) على خيار السلام معها. واللافت أيضاً أن حكومة أولمرت اختارت ارتكاب مذبحتها في السنة التي اتفق في آنابوليس على أنها ستشهد ميلاد الدولة الفلسطينية. مما يؤكد مرة أخرى على أن السياسة الإسرائيلية ترفض في العمق فكرة السلام مع الفلسطينيين بشكل خاص، ومع العرب بشكل عام. لا تفكر القيادة الإسرائيلية في أن مذبحتها تهدد "منجزات" آنابوليس، لأنها ترفض فكرة إنهاء الصراع الآن قبل تحقيق أهداف استراتيجية ثلاثة: التنازل الفلسطيني عن أغلب الضفة الغربية، وعن القدس الشرقية، وعن حق العودة. منذ اتفاقية "كامب ديفيد" مع مصر عام 1979 وحتى الآن، وأمام كل تنازل أو توجه سلمي عربي، تقابله إسرائيل بأمرين: الأول توسيع الاستيطان في الضفة، والثاني الإمعان في تطبيق ما أسماه يوما "زئيف جابوتنسكي" (الأب الروحي لليكود) بمبدأ "الجدار الحديدي". توسيع الاستيطان حتى خارج المناطق التي تسعى إسرائيل الى الاحتفاظ بها، يعزز أوراقها التفاوضية من خلال مساومة الفلسطينيين على الأرض. أما تطبيق مبدأ "الجدار الحديدي" فيهدف إلى كسر إرادة الفلسطينيين، من خلال استخدام أقسى درجات العنف والامتهان معهم بغرض دفعهم إلى اليأس من مقاومة الاستراتيجية الإسرائيلية. وهذا هو تحديداً معنى "الجدار الحديدي"، أي إقناع الفلسطينيين بقوة الدم والنار بأنهم أمام جدار حديدي يهودي، ولا خيار لهم في هذه الحالة إلا اليأس والتسليم. في هذا الإطار تمثل عملية السلام بالنسبة للإسرائيليين الغطاء المطلوب للمضي في هذه السياسة. إضعاف "حماس"، وليس إسقاطها، وقبل ذلك إضعاف حكومة السلطة في الضفة، وتعميق الانقسام بينهما، هو هدف المجزرة الأخيرة. تريد إسرائيل إقناع "حماس" بأن استيلاءها على غزة لا يعني أنها ستكون بطل الفلسطينيين القادم. لكن المجزرة تضع حكومة أبومازن، وهي التي تتفاوض مع أولمرت، في موقف صعب، يفرض عليها تجميد المفاوضات، وهو ما فعلته. وإذا ما قرر أبومازن إنهاء هذه المفاوضات، فهذا ما تريده إسرائيل. تعزز هذه السياسة فرضية أن إسرائيل لا تعتبر السلام في هذه المرحلة من مصلحتها، لأنها لم تحقق أهدافها الاستراتيجية بعد. هي ترى أن الوقت يسير حتى الآن في صالحها وليس العكس. وإذا كان العرب والفلسطينيون مستعجلين في اتجاه السلام، فهذه مشكلتهم. تحقق السياسة الإسرائيلية أهدافها حتى الآن على الأقل: الفلسطينيون يخسرون الأرض، وتزداد انقساماتهم أمامها. بل تلعب هذه السياسة دورها في تعميق انقسام الدول العربية، العمق الاستراتيجي للفلسطينيين. بعض العرب يرى في المجزرة استمراراً للمشروع الأميركي الصهيوني لإخضاع المنطقة، وتفريغها من حق المقاومة، وبالتالي دليلاً على فشل ما يسمى في العالم العربي بـ"قوى الاعتدال"، وفشل الخيار السياسي الذي تمثله. في المقابل هناك من يرى في المجزرة دليلاً على استهتار الفريق الآخر، أو ما يسمى بـ"قوى الممانعة"، ومغامرتها بأرواح الناس وممتلكاتهم في سبيل تحقيق مكاسب سياسية تخص هذه القوى دون سواها. هذا النوع من الخطاب في مقاربة الأحداث عربياً يؤكد حالة الضعف والعجز العربية. العدو الإسرائيلي يملك سياسة واضحة، ويطبقها على الأرض باستمرار، ومن خلالها يحقق مكاسب سياسية ملموسة. من جانبها لا تملك الأطراف العربية، بما فيها الفلسطينيون، سوى تبادل الاتهامات المجانية. هنا تتضافر الأحداث على الأرض مع الخطاب المعبر عنها ثقافياً وسياسياً على الجانب العربي لتعكس حالة ضعف عربية تبدو مزمنة ومستعصية. وليس أدل على ذلك من حقيقة أن أياً من قوى "الاعتدال" أو "الممانعة" العربية، ورغم كل الخطابات السياسية، لا تستطيع مساعدة الفلسطينيين في محنتهم أمام آلة الحرب الإسرائيلية. لا يعبر الخطاب السياسي العربي الراهن في مواجهة الأحداث سوى عن محاولة مكشوفة للهروب من مسؤولية الفشل، وتوظيف ذلك كذخيرة في التجاذبات العربية-العربية. تقسيم الدول العربية إلى "دول ممانعة" وأخرى "معتدلة" هو تقسيم مضلل، لأنه ليست هناك من فروق سياسية أو ثقافية أو أيديولوجية بين الدول العربية تبرر مثل هذا التقسيم، بل إن صيغة الجمع في هذا التقسيم تتناقض مع الواقع السياسي العربي. سوريا بمفردها يقال إنها دولة ممانعة. الغريب أن هذا التقسيم أميركي. سوريا تتبنى المبادرة العربية للسلام، وتطالب بأفضل العلاقات مع واشنطن، وترفض خيار الحرب مع إسرائيل، وجبهتها مع إسرائيل من أكثر الجبهات العربية هدوءاً واستقراراً لأكثر من أربعين سنة، وتتفاوض سراً مع إسرائيل، وتؤكد دائماً رغبتها في التوصل إلى سلام دائم مع الدولة العبرية. وهي في ذلك تعبر عن موقف مشترك مع الدول العربية الأخرى. كيف تصبح سوريا في هذه الحالة دولة ممانعة؟ يؤكد هذا التناقض أن القضية الفلسطينية ليست إلا موضوعاً للتجاذبات العربية-العربية، وأن الخطاب السياسي العربي ليس أكثر من غطاء لهذه التجاذبات، ولمصالح تخص الأنظمة السياسية الحاكمة في هذه الدول أولاً وقبل كل شيء. من ضحايا هذه التجاذبات مؤسسة القمة العربية. ولأن سوريا تستضيف القمة هذه السنة فهي تريدها ليس لنصرة غزة في محنتها، وإنما لتغطية موقفها من الأزمة اللبنانية. لم تقدم القمة يوماً ما حلاً لأية أزمة عربية. كان المفترض أن تكون القمة منبراً لحل الخلافات، لكنها موضوع لهذه الخلافات. وحين يصل الأمر إلى هذا الحد، ويتناقض الخطاب مع السياسة على الأرض، فهو يعبر بشكل مأساوي عن حالة الضعف العربي.