عندما تجري الأجيال القادمة تقييماً لتركة بوش في مسألتي الهجرة والحرب على العراق، فمن المتوقع ألا ترى فيهما سوى أسوأ كارثتين خلفهما الرئيس الأميركي وراءه. لكن المفارقة بالنسبة لإدارة محافظة مثل إدارة بوش أن القضيتين معاً تضربان عميقاً بجذورهما في تربة التعددية الثقافية. فمنذ الستينيات ازدهرت التعددية الثقافية وأصبحت أحد الملامح المهيمنة على الساحة السياسية والثقافية في الغرب. والواقع أن هذه التعددية تتكئ على مقومات هشة، تتمثل في ما يطلق عليه بالنسبية الثقافية التي ترى أنه لا وجود لثقافة أفضل من أخرى، أو أسوأ منها، بل هناك ثقافات مختلفة فقط. لكن الدراسة التي أجرتها كلية الحقوق والدبلوماسية بجامعة "تافتس" الأميركية، تثبت بوضوح أنه فيما يتعلق بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية والازدهار هناك ثقافات أفضل من غيرها في الأداء. فحسب المعطيات المتوافرة تعتبر بلدان شمال أوروبا- الدانمرك، وفنلندا، وأيسلندا، والنرويج، والسويد- أكثر دفاعاً عن قيم التقدم، بحيث تمكنت هذه الدول عملياً من القضاء على الأمية بشكل تام في القرن التاسع عشر. لكن في المقابل لا توجد دولة عربية واحدة ديمقراطية، كما أن الأمية في صفوف الإناث تفوق في بعض البلدان العربية نسبة 50%. ولا بد من التوضيح هنا أن الثقافة لا تعني العرق، أو الأصول الإثنية بل هي ترتبط أساساً بمنظومة القيم والمعتقدات والمواقف التي توجه سلوك الأفراد في المجتمعات. ومن هذا المنطلق تكتسي الثقافة أهمية قصوى لتأثيرها المباشر على مدى تقبل المجتمعات للديمقراطية والعدالة والمبادرة الحرة ومؤسسات اقتصاد السوق. فما هي إذن التداعيات المترتبة على سياسة خارجية ترى بأن "قيم الحرية تصلح لكل فرد في كل المجتمعات"؟ فقد عبأت إدارة الرئيس بوش جميع الإمكانات المادية والبشرية والدبلوماسية لضمان تطبيق هذه الرؤية في العراق فقط ليتبين اليوم أنها كانت متهافتة. إن أحد العوامل المهمة في عملية الانتقال الديمقراطي هي الثقة، وهي مكون ثقافي أساسي بالنسبة للعدالة الاجتماعية والازدهار الاقتصادي، بحيث يساهم شيوع الثقة بين الأفراد إلى التقليل من تكلفة المعاملات الاقتصادية، كما أن الاستقرار السياسي يعتمد عليها. ولمعرفة حجم الثقة في المجتمعات المختلفة تقوم مؤسسة "المسح الأخلاقي العالمية" بقياس نسبتها في أكثر من 80 دولة حول العالم. وقد لاحظت الدراسة أن دول شمال أوروبا تتمتع بأعلى درجات الثقة، بحيث عبر ما بين 58% و67% من المستجوبين بثقتهم في الناس، مقارنة مع 11% من الجزائريين و3% من البرازيليين. ولعل السبب وراء مستويات الثقة العالية لدى مجتمعات أوروبا الشمالية يرجع إلى الطابع المتجانس لهذه المجتمعات وقيمه المشتركة القائمة على العقيدة "اللوثيرية" (البروتستانتية) والمستندة إلى نظام أخلاقي صارم والتشديد الكبير على التعليم، ومن ثم الشعور بأن الأمة كلها عبارة عن عائلة واحدة كبيرة تلتزم بالقواعد نفسها. ومرة أخرى أكرر بأن الثقافة هي المفتاح في هذه العملية، وليس العرق. وللتدليل على ذلك للنظر إلى الجذور العرقية لكل من سكان هايتي وجزيرة باربيدوس (جزيرة في المحيط الأطلسي غير بعيدة عن جزر الكاريبي تتمتع بأعلى مستويات معيشة في العالم) الذين ينحدرون معا من أفريقيا. لكن في الوقت الذي ظلت فيه هايتي أحد أكثر البلدان فساداً وفقراً، فضلاً عن انتشار الأمية على نطاق واسع، تعتبر "باربيدوس"، التي استقلت من الحكم البريطاني في العام 1966، أكثر الدول ديمقراطية وازدهاراً. ولنا في الهجرة مثال آخر على دور الثقافة في تحديد مستقبل الشعوب. فاللاتين أصبحوا أكبر الأقليات الموجودة حالياً في أميركا، إذ تصل نسبتهم إلى 15% من سكان الولايات المتحدة، أي حوالي 45 مليون نسمة، من إجمالي الشعب الأميركي البالغ عدده 300 مليون نسمة. وحسب مركز "بيو للأبحاث" من المتوقع أن يرتفع عددهم في العام 2050 إلى 127 مليونا، أي بنسبة 29% من عدد السكان الإجمالي الذي سيصل وقتها إلى 438 مليون نسمة. لكن تجربتهم في الولايات المتحدة تعيد استنساخ القيم الثقافية في أميركا اللاتينية المنتجة للتخلف. فعلى سبيل المثال تبقى نسبة التسرب المدرسي بين اللاتين هي الأعلى في الولايات المتحدة بنسبة مرتفعة تصل إلى 20%. وقد كان "صمويل هنتنجتون" على حق عندما تساءل في كتابه الأخير "من نحن؟: التحديات المطروحة على الهوية الوطنية الأميركية" عما إذا كانت أميركا ستكون على ما هي عليه الآن لو لم يستوطنها البروتستانت البريطانيون واستوطنها بدلاً عنهم الكاثوليك من الفرنسيين، أو الإسبان، أو البرتغاليين؟ وبالطبع سيكون الجواب بالنفي، لأنه لو حدث ذلك ستتحول أميركا إلى "كيبيك" أخرى، أو مكان شبيه بالمكسيك، أو البرازيل. وفي هذا السياق يمكن الجزم بأن إحراز المهاجرين اللاتين للتقدم في أميركا مسألة معقودة على مدى قدرتهم على التلاقح مع القيم الأميركية التقليدية. ولا بد في هذا الصدد من وقف التعليم ثنائي اللغة لأنه يعيق عملية الاندماج الثقافي وبالتالي من شأنه إعادة إنتاج نفس المنظومة القيمية لأميركا اللاتينية. وبرغم أن قضية أمن الحدود والمشاكل البيئية تدخل في النقاش العام عندما يتعلق الأمر بموضوع الهجرة، إلا أن المقاربة الاقتصادية تبقى هي المهيمنة على النقاش، وهو ما يدفع بالعديد من المسؤولين إلى الاستماتة في الدفاع عن الهجرة. بيد أن الهجرة تأخذ طابعاً مختلفاً عندما تُقارب من منظور ثقافي، لا سيما وأن جزءا كبيراً من اللاتين يبقى غير مندمج في الثقافة الأميركية. وإذا كان لا بد من الهجرة لدواعٍ اقتصادية، فإنه يتعين أيضاً تسهيل اندماج المهاجرين في سياق الثقافة العامة وانصهارهم في بوتقة واحدة. لورنس هاريسون ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مدير معهد التغيير الثقافي بجامعة "تافتس" الأميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"