لو تابعنا الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا وبعض البلدان المتقدمة الأخرى لرأينا المرشحين يثيرون المخاوف من الحالة الاقتصادية والسياسية التي من الممكن أن تتطور للأسوأ وتتحول إلى واقعٍ مرير، إضافة إلى التلويح بعواقب التباطؤ في تمرير أنظمة الضمان الصحي والاجتماعي، وبعض القوانين الأخرى التي تمس حياة الناس في تلك البلدان. إنها فعلاً حملات انتخابية مليئة بالمخاوف وتريد أن توصل رسالة للناخبين بأن عدم انتخابهم هذا المرشح أو ذاك ستكون له عواقب وخيمة. وتحقيقاً للمخاوف الواردة في البرامج الانتخابية، لا تفتح جريدة أو تشاهد قناة تليفزيونية غربية إلا وتجد مسحة من التشاؤم المستقبلي، حتى لو كانت هذه البلدان تحقق أعلى معدلات نمو، وتملك فوائض نقدية ضخمة، وأدنى معدلات بطالة، أما العجيب فهو أن البلدان العربية ورغم واقعها المرير اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً فإنك لن تجد عندها إلا تلك الكلمات الكبيرة مثل "الأضخم" و"الأكبر" و"الأفضل" و"الأعلى". ستجد جرعات زائدة من التفاؤل غير الصادق، فمُخرجات تعليمنا العربي هي في أحسن حالاتها حتى لو قالت التقارير الدولية إننا نصارع مع دول أفريقية أخرى في أي منا يحصل على المراتب الأخيرة في سلم تصنيف الجودة العالمية للتعليم. والتضخم -حسب السياق العربي- لم يرتفع إلا بمعدلات لا تذكر، مع أن الواقع يقول إننا نسجل معدلات تضخمية لا مثيل لها في فترة قياسية، بحيث إن الأسعار لبعض المواد الأساسية ارتفعت بنسبة (500%)! نحن نتغنَّى بسمائنا الزرقاء وروائح براعم أشجار الليمون وأصوات بلابلنا المغرِّدة، ونضع ذلك في ملفاتنا المصقولة التي نحاول أن نستقطب عبرها سائحي الشرق والغرب والشمال والجنوب، أما التقارير الدولية فتقول: إن معدلات التلوث في البلدان العربية في الأرض والجو وما بينهما، فاقت كل معدلات التلوث العالمية. نحن لا نخاف عندما يكون أحد بلداننا العربية بلا رئيس جمهورية وبدون مجلس نواب يمرر القوانين وبلا مجلس وزراء يفتقد نصابه القانوني بحيث يصبح مجرد مجلس وزراء لتصريف الأعمال لا غير، لا خوف من هذه الحالة، فمطاعم تلك الدولة تعمل ودور السينما تعرض أحدث الأفلام، والبرامج التلفزيونية الفضائية تقدم آخر كليبات "أحبائنا" الفنانين... فلماذا الخوف إذاً؟! هناك ساعة سكانية في بعض الدول السائرة بِخُطى واثقة نحو التقدم، مولودٌ واحد فقط يعطي مؤشراً إلى قادم جديد يحتاج لكميات من الحليب المجفف والملابس وكرسي للدراسة وسرير مستشفى في حالة الطوارئ، أما نحن فلا خوف لدينا من كل هذا، الطفل يقدُم ورزقه معه... وهذا حق... ولكن أي رزق هذا؟ تكتظ الشوارع بالأطفال المتسوِّلين، وتتكاثر المشاكل الاجتماعية والإنسانية جراء الازدحام السكاني البشري.. ومع هذا فلا خوف ولا داعي لإثارة الذعر من خبايا المستقبل! يحرق صِبية في ضواحي الدول المتقدمة بعض المحلات ويكسرون زجاج عدد قليل من السيارات احتجاجاً على غلاء معيشة أو كلمة عنصرية أو تهميش يظنونه متعمداً، فتهرع الأمة كلها دولة ومؤسسات اجتماعية لدراسة هذه الحالات وطرح أسئلة عن أوجه النقص والخلل التي أدت إلى مثل ذاك الهيَجان المحدود.. إنه الخوف من الحاضر وما يخفي القادم، في المقابل تُخرج بعض مناطقنا العربية وبشكل محدد طوابير الناقمين على مجتمعاتهم وحكوماتهم، دون أن يداهمنا الخوف على هؤلاء الأبناء وظروفهم الدافعة لكل هذا العنف من القول والفعل عندهم! تخاف الكيانات السياسية العالمية الحريصة على شعوبها من القلاقل والحروب البعيدة عنها بمسافات شاسعة، لئلا تنتقل العدوى إلى داخلها على الرغم أنها قد تكون ضالعة بهذه الطريقة أو تلك في إشعال نار الصراعات القصية، إنها تخشى -حتى لو سلمت أراضيها ومجتمعاتها- من بَوار تجارتها وتأجيل استثماراتها في تلك المناطق المنكوبة بعدم الاستقرار، أما نحن فالنار في دارنا العربية تشتعل لكن هذا لا يخيف أحداً، يقتل "المناضل" أخاه "الصامد" فلا تحركنا شفقتنا على هؤلاء غير البالغين سياسياً، ولا مخاوفنا الأخرى من انعكاس آلام ما يحدث بين مقاتلي القضية الأم، ولهذا فلا بأس من الانتظار حتى ينقشع غبار تصارع (الإخوة) وبعد ذلك فلكل حادثٍ حديثٌ. كنت قبل عام في زيارة لنيوزيلندا، وأرعبتني دقة التفتيش في حقائبنا القادمة معنا نحن المشرقيين، كانت أيدي المفتش والجمركيين تغوص في أسفل أمتعتنا، وداخلني شكٌّ أن بلاغاً كاذباً حول تهريب ممنوعات قد ورد للأجهزة الأمنية في تلك الدولة، وأن البلاغ محددٌ في طائرتنا المليئة بالبشر والأمتعة، وبعد استفسار بسيط تبين أن كل هذا البحث والتحرِّي كان لأجل شيء آخر غير الذي ورد في أذهاننا... كان المفتشون يبحثون فعلاً عن ممنوعات (مُخيفة)، أتدرون ما هي؟ كان الدارسون العرب في نيوزيلندا، وبمناسبة قرب شهر رمضان، يأتون بالتمر المليء بالنوى، وهذا الأمر جِدُ مخيف لتلك الدولة المهتمة بالبيئة، إنهم لا يريدون أي شجرة غريبة لا تتناسب مع التربة الزراعية المناسبة لأشجار أخرى ليس بينها بالطبع شجرة النخيل، وكانوا يبررون هذا (التعسف) البيئي بقصة حدثت منذ زمن بعيد عندهم: أتى أحد الأستراليين قبل سنوات عديدة بأرانب بريه أسترالية لا يوجد مثيل لها في الدولة الجار لأستراليا، ومن ذاك الحين تكاثرت الأرانب البرية المتوحشة في نيوزيلندا وبدأت تأكل الأخضر واليابس وبعدها تعلم شعب (الكيوي) الخوف من كل حقيبة منتفخة! سخيفة تلك المخاوف أليس كذلك؟