ليس غريباً أن تتفوق دولة الإمارات في ارتفاع معدلات الإنفاق على الدول العربية كافة، بما فيها السعودية التي يبلغ عدد سكانها 23.6 مليون نسمة، وذلك حسب تقرير صدر خلال الآونة الأخيرة عن صندوق النقد العربي. ففي الدولة مراكز تسوق كثيرة جداً، وتحول الاستثمار إلى مثل هذه المراكز لسهولتها وعائدها السريع والمضمون، دون النظر إلى الآثار السلبية الناجمة عن مثل هذه الأسواق التي تسهم أولاً في خلل يزداد باضطراد في التركيبة السكانية، ويقلل من فرص استثمارية أكثر أهمية وأكبر عائدا من تلك المركزة على مراكز تسوق هائلة العدد والبضائع. فقد تحولت الكتل الإسمنتية إلى صورة مكررة وباهتة في كل مكان، لدرجة أنها تصاحبت مع التداعيات التي من الممكن أن تخلقها مثل هذه المباني، التي تعبر عن فكر أحادي. هذه الكثرة في العرض أفرزت سلوكاً استهلاكياً صعباً، ساهم في تعزيز ثقافة استهلاكية غريبة، لدرجة أن الكثير من الغربيين اتهمونا بأننا عبارة عن أغنياء جدد، وإلا ما سبب هذا الهوس بالشراء واقتناء الأسماء التجارية الشهيرة والمبالغة في الاستعراض على كافة الأصعدة؟ والحقيقة أن المواطن أو المقيم على أرض الدولة محاصر بسوق إعلاني مروع، وكأنه سجين لوحة إعلان تحثه نحو الإنفاق لما لا يريد أو يحتاج. هذا التكالب الإعلاني يمكن اعتباره سبباً رئيسياً لمثل هذا السلوك، وأزعم أن غياب من يمكن الاقتداء بهم ممن لديهم مثل هذه الثقافة أسهم بشكل ما في ازدياد مثل هذا السلوك. فالتحضر ليس مجرد واجهات ملونة ومصقولة، أو حتى بنيان زاهٍ بألوانه وتقسيماته، إنها فكرة احترام الإنسان وتقديسه ومساعدته للبحث عن مشروعه الحياتي الذي بالإمكان تداوله عبر أجيال قادمة. فالاستهلاك ليس ثقافة الخطر على مستوى الإنفاق فقط، إنه سلوك يورث التبعية والاعتماد على الآخرين ليقوموا بالتفكير بالنيابة عنا، لتزداد الهوة بين المتقدم والمتأخر الذي لا يطيق أن يسبح ضد تيار الرتابة وشراء كل شيء حتى الأفكار النيرة بالمال، ناهيك عن تناقص فرص الادخار، والمغامرة بالدخول في صناعة تحتاجها الدولة بدلاً من تجارة تجزئة أصابت الاقتصاد بالتخمة وعدم التنوع في سلة استثماراته. والشاهد أن زيادة مثل هذه "المولات" وهذه التجارة، لابد وأن تقف عند ضوابط قانونية تتعامل مع تساؤلات مهمة حول مدى ضرورتها والحاجة إليها أم لا. فليس من العقل أن يكون المجتمع أسير مصالح آخرين لا يفقهون إلا أموالاً سهلة طريقها محدد وله تداعياته السلبية على الآخرين. إيقاف هذا الزحف حل، وحل آخر هو البحث عن ثقافة غائبة، والانشغال بمهام حياتية أخرى جديرة بالاهتمام وإيجاد إيقاع حياتي مختلف يستدرك مثل هذه الثقافة ويأتي لنا بالبديل الأفضل والأبعد نظراً، والذي يمكن اعتباره ثقافة طويلة الأمد وعواقبها إيجابية حتى على أطول مدى.