منذ قرن من الزمان، وتحديداً في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى، كان قائد البحرية الملكية البريطانية الأدميرال "جاكي فيشر" متحمساً لسفينة جديدة لديها القدرة على الغوص والعمل من تحت الماء أي الغواصة، ويحث بشدة على تطويرها وإنتاجها على نطاق واسع. "فيشر" نسي آنذاك حماسه المماثل لإنتاج مدمرة منذ سنوات قليلة، وأصبح متحيزاً لسلاحه الجديد "العجيب" الأصغر حجماً بكثير. فهذا السلاح في نظره سيكبح جماح محاولات كان أسطول أعالي البحار التابع لقيصر ألمانيا، سيقوم بها لتحقيق السيادة في بحر الشمال. وقتها رأى "فيشر" أن خوف الألمان من الغواصة، سيجبرهم على إبقاء سفنهم في الموانئ، خوفاً من تعرضها للتدمير من قبل هذه الوحوش البحرية الصغيرة غير المرئية، خصوصاً أن بريطانيا وقتها كانت سيدة البحار. ولكن رجلاً من الرجال الذين تبادلوا الرسائل مع "فيشر" وهو السير" آرثر بلفور"، الذي شغل منصب رئيس الوزراء من قبل، وعُرف بحكمته ورصانته، واهتمامه العميق بالمسائل الدفاعية، كان أقل إعجاباً بالسلاح الجديد، حيث رأى أن اهتمام بريطانيا يجب أن يتركز بشكل أكبر ليس على ما تستطيع تلك الغواصات الجديدة فعله قبالة الموانئ الألمانية، بل على ما تستطيع الغواصات الألمانية فعله قبالة الموانئ البريطانية. حينها كان بمقدور هذا السلاح أن يمثل إضافة مهمة لترسانة بريطانيا البحرية ويوفر ميزة أكبر للبحريات المنافسة. وقد تبين فيما بعد أن "بلفور" كان بعيد النظر. فكما نعرف من تاريخ الحربين العالميتين، فإن الغواصة الألمانية كانت هي التهديد الأكبر للمرات البحرية لبريطانيا وحلفائها في مناسبتين على الأقل(عامي 1917 و1943)، مما أثار في المناسبتين كلتيهما مخاوف من إمكانية خسارة الحلفاء للحرب البحرية في المحيط الأطلسي. لقد تذكرت ذلك الحوار بين "فيشر" و"بلفور" عندما وقعت عيناي مؤخرا على تقرير نشر بموقع LiveScience.com تحت عنوان:"البحرية الأميركية تختبر سلاحاً جديدا فائق التطور". والسلاح الذي يذكره ذلك التقرير، هو بندقية اليكترومغناطيسية تطلق مقذوفاً بسرعة تفوق سرعة الصوت بسبع مرات وبمدى يصل إلى 230 ميلاً. وعندما يدخل ذلك المقذوف من جانب أحد أهداف العدو ليخرج من الجانب الآخر، فإنه لا يخلف انفجاراً بل دماراً هائلاً، فعلى الدول المارقة أن تأخذ حذرها. والتبرير الذي تقدمه البحرية الأميركية لإنتاج هذا السلاح الجديد يشبه تماماً ما قاله الأدميرال "جاكي فيشر" قبل الحرب العالمية الأولى، بيد أنه جاء هذه المرة على لسان الأدميرال الأميركي "جاري رفهيد" مدير العمليات في البحرية الأميركية الذي قال:"لا أريد على الإطلاق أن أرى بحاراً أو جندياً من جنود مشاة البحرية يخوض قتالاً تكون قوته فيه مكافئة لقوة عدوه، وإنما أريد لمثل هذا الجندي أن تكون له ميزة يتفوق بها على ذلك العدو". وأضاف"رفهيد" إلى ذلك قوله:"يجب ألا نتوقف أبداً عن التطلع إلى الشيء الكبير التالي، وأن نعمل دائماً على جعل قدراتنا أفضل وأكثر فعالية، مقارنة بما يستطيع أي طرف آخر أن يضعه في ميدان المعركة". هنا تحديداً تكمن الصعوبة: فماذا يمكن أن يحدث مثلاً إذا ما أعلنت الولايات المتحدة عن سلاح جديد يمكن لطرف آخر وضعه في ساحة المعركة؟ في الوقت الراهن تمتلك البحرية الأميركية منظومتي سلاح متطورتين، ليس لهما مثيل ولا يتوقع أن تتمكن القوات البحرية للدول الأخرى من إنتاج نظير لهما (لعقد من الزمان أو ما يزيد عن ذلك، بل ربما لمعظم الجزء المتبقي من القرن الحالي). السلاح الأول: هو حاملات الطائرات العملاقة التي تعمل بالطاقة النووية مثل الحاملة "يو. إس.إس نيميتز"، التي ترجع قوتها ليس إلى حجمها الضخم، ولا لعدد الطائرات التي تستطيع حملها على ظهرها، ولكن لأن بنيتها تتطلب تشكيلة هائلة من المنظومات الدقيقة، عالية التقنية، وفائقة الصغر حتى تستطيع أن تؤدي وظيفتها. ويتوقع الخبراء البحريون أن الأمر قد يحتاج من القوى العالمية الصاعدة إلى 25 عاماً تقريبا، حتى تتمكن من تصميم مثل هذه الحاملات المتطورة. أما السلاح الثاني، فيتمثل في أسطول الغواصات الهجومية التي تعمل بالطاقة النووية، والغواصات المزودة بالصواريخ الباليستية، والتي تتطلب مجموعات متطورة من الصناعات المساعدة والتقنيات اللازمة، حتى تصبح قادرة على العمل. وما يحدث الآن هو أن بحريات الدول الأخرى مثل الصين وإيران والهند وروسيا- التي تعرف مدى التفوق الأميركي- ترغب هي الأخرى في إنتاج أسلحة مماثلة، ليس من أجل منافسة أميركا في السيادة على البحار، وإنما من أجل تأمين مياهها فقط. ربما يكون لبعض تلك الدول خطط لبناء أسطول من حاملات الطائرات خلال الجيل القادم، ولكن ما يحدث حالياً هو أنها تركز جهودها على ما يعرف بـ"الأسلحة اللامتماثلة" التي يمكنها الحد من الهيمنة الأميركية العالمية. وهذه الأسلحة تتراوح بين الغواصات فائقة الهدوء، والمطلية بمواد تمكنها من التخفي(مواد مضادة للاكتشاف)، والتي تعمل بطاقة الديزل وبين الصواريخ الموضوعة في قواعد ساحلية، والقادرة على الطيران على ارتفاع منخفض يلامس سطح الماء من أجل تجنب شاشات الرادار المعادية(الأميركية). وإذا كان ما كتبته صحيحاً أو قريباً من الصحة، فعالم الأسلحة المتطورة فائقة التقنية يكون بعيداً في العادة عن عيون المدنيين، فإن البنتاجون قد تُحسن صنعاً، إذا ما أطالت التفكير قليلاً، قبل أن تُقدم على إنتاج هذا السلاح الجديد الذي يشبه تلك الأسلحة التي نراها في ألعاب الفيديو. لماذا؟ لأن هذا السلاح رغم قدرته على تحقيق كافة أنواع المنافع للولايات المتحدة في الصراعات الإقليمية التي قد تخوضها مستقبلاً، مثل تخويف القادة العسكريين الإيرانيين على سبيل المثال، فإنه يثير في الوقت ذاته سؤالاً جديراً بالاهتمام هو: ماذا يمكن أن يحدث إذا ما قامت دول أخرى، وبسرعة، بتقليد هذا السلاح الجديد؟ هذا الاحتمال وارد، خصوصاً إذا عرفنا أن الصين والهند وإيران وروسيا، تضم عدداً كبيراً من العلماء والمهندسين، ومن معاهد البحث والخبراء العلميين المتخصصين في المسائل الدفاعية، والموارد المالية الهائلة، التي تمكنها من إنتاج سلاح مماثل، سيستغرق منها وقتا أقصر بكثير من الوقت الذي ستحتاجه من أجل بناء أسطول من حاملات الطائرات التي تعمل بالطاقة النووية. ولو حصلت هذه الدول على هذا السلاح أو حتى لو قامت بشرائه، فإن ذلك سيؤدي دون شك إلى الحد من خيارات الولايات المتحدة في أي مواجهات مستقبلية. الولايات المتحدة تتمتع في الوقت الراهن بلحظة تاريخية فريدة في الساحة الدولية. وعلى الرغم من أن إدارة بوش قد تكون تصرفت بطريقة جعلتها تفقد الكثير من شعبيتها في العديد من أجزاء العالم، وجعلت ثقلها الاقتصادي أبعد ما يكون عن قوته خلال الخمسين عاماً الماضية، فإننا لو نظرنا إليها من ناحية القوة المطلقة، سنجد أنها قوة لا نظير لها، ولا يستطيع أحد مواجهتها(لا ينطبق هذا على روسيا والصين والهند الآن ولكن على أي قوة أخرى ظهرت في أي فترة من فترات التاريخ). على الرغم من كل ذلك يبقى السؤال الكبير: إذا كنت على قمة العالم، وتريد أن تظل هناك ألن يرتب عليك ذلك مسؤولية خاصة تدفعك إلى التعامل مع كافة المقترحات الداعية لإنتاج أسلحة أو معدات جديدة بقدر أكبر من العناية؟ أطرح هذا السؤال لأن الأشياء التي يمكن أن تمنحك أفضلية مبدئية، يمكن أن تنقلب عليك بعد سنوات قليلة. ينطبق هذا أيضاً على الأسلحة الجديدة العجيبة، التي يمكن أن يترتب عليها هي الأخرى نتائج تجعل من سيأتون بعدنا يندمون ندماً شديداً... وطالما أن الأمر كذلك فليكن المشترون على حذر إذن! بول كنيدي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أستاذ التاريخ بجامعة "يل" ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفس"