ربما يكون فيدل كاسترو أحد أكثر الرؤساء كاريزمية وإثارة للجدل في التاريخ الحديث بأكمله. وعلى الرغم من أن الكثير من قادة وشعوب الدول الغنية في الغرب، كانوا ينظرون إليه على أنه ديكتاتور منبوذ، يقود دولة أوصلتها سياساته إلى حافة الهاوية، إلا أن الكثيرين من قادة الدول الفقيرة وشعوبها، كانوا ينظرون إليه على أنه بطل أسطوري، ومصدر إلهام لا ينضب للكثيرين في هذا العالم بسبب تحديه للولايات المتحدة، وصلابته في الصمود أمامها قرابة نصف قرن، ونجاحه في شق طريق ثوري جديد ومستقل لبلاده طيلة هذه الفترة. وعلى الرغم من أن الكثير من مؤسسات النشر كانت قد بذلت العديد من المحاولات من أجل إقناع كاسترو بكتابة سيرته، إلا أنه لم يرضخ لتلك المحاولات إلا الآن أي عندما أفل حكمه، واقتربت حياته ذاتها من الأفول، حيث وافق على إجراء سلسلة من المقابلات على 100 ساعة مع الصحفي المعروف "إيجناسيو رامونيه" رئيس تحرير صحيفة "لوموند دبلوماتيك" الفرنسية. والإجابات التي قدمها كاسترو على أسئلة رامونيه تعد بمثابة شهادة حية من الزعيم الكوبي. فعلى امتداد صفحات الكتاب يسرد كاسترو بأسلوب ممتع تفاصيل حياته بدءاً من أيام المدرسة الابتدائية حيث يتذكر أن معلمي المدرسة كانوا يعاملون الطلاب بقسوة شديدة، مروراً بتمرده على حياة الترف التي كان يعيشها مع عائلته، بعد أن أدرك مدى اتساع الهوة بين هذه الحياة والحياة التي يعيشها معظم الكوبيين، وهو التمرد الذي كان نقطة البداية في تشكيل وعيه الثوري، الذي قاده بعد ذلك للثورة على حكم الطاغية" فالجنسيو باتيستا". يعرج كاسترو بعد ذلك للحديث عن المسار الذي اتخذته الثورة، وانتصاراتها التكتيكية، والإخفاقات التي تعرضت لها، وعلاقة الصداقة الوطيدة التي ربطت بينه وبين رفيقه الأسطوري "أرنستو شي جيفارا"، والنصر المفاجئ وغير المتوقع الذي نجحا في تحقيقه ضد الطاغية عام 1959، وتسلمه لزمام الحكم، وتبنيه للنظام الشيوعي الذي جعل من كوبا أول بلد يعتنق هذا النظام في نصف الكرة الغربي، وأحداث أزمة خليج الخنازير التي حاولت فيها الولايات المتحدة تجنيد عدة مئات من الكوبيين الموجودين فيها لإسقاط نظام كاسترو وإخفاقها في ذلك. ثم يتناول أزمة الصواريخ التي نشرتها موسكو في الجزيرة الكوبية والتي هددت بنشوب حرب ذرية عندما اكتشفتها أميركا، كما يعرض مقتطفات من بعض المراسلات التي تبادلها مع القيادة السوفييتية في ذلك الوقت، وتفاصيل الدور النشط والفعال الذي لعبته كوبا في مساعدة ودعم حركات التحرر الوطني في أفريقيا، وعلاقاته الشخصية بكثير من زعماء العالم. ويقول كاسترو إن الرئيس الأميركي الوحيد الذي يحظى باحترامه هو جيمي كارتر. ويحكي أيضاً عن تفاصيل محاولات الاغتيال العديدة التي دبرتها الاستخبارات المركزية الأميركية، ودوائر الكوبيين المغتربين، من أجل التخلص منه، والتي بلغت العشرات، لكنها لم تحقق هدفها. ويتحدث كاسترو بفخر عن إنجازاته ومنها نجاحه في رفع متوسط أعمار الكوبيين، خلال سنوات حكمه، بحيث أصبح يفوق معدل أعمار الأميركيين، ويعتبر ذلك دليلاً على نجاح سياساته الاقتصادية والصحية، على الرغم من الدعاية الغربية التي تحاول نفي ذلك وإثبات أن العكس تماماً هو الصحيح. كما يتحدث كاسترو بفخر عن تطور التعليم الجامعي في بلاده، وارتفاع مستواه، وازدياد أعداد الطلاب الكوبيين في الجامعات، والذين تجاوز عددهم حالياً نصف مليون طالب، كما يركز بشكل خاص على التعليم والتدريب الممتازين اللذين يحظى بهما الأطباء الكوبيون، والذي جعل منهم فئة مرغوبة في غالبية الدول الأجنبية، بل وفي الولايات المتحدة ذاتها. ويكشف كاسترو عن أن نصف عدد خريجي الطب في كوبا يعملون الآن في الخارج ويساعدون الفقراء في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. غير أن كاسترو لم يستطع في هذه السيرة أن ينفي أنه يواجه العديد من القضايا المستعصية؛ كالديمقراطية وسجل حقوق الإنسان واستمرار عقوبة الإعدام في القوانين الكوبية. ولم ينس كاسترو أن يضمن سيرته بعض أسراره الشخصية الحميمة، التي لا شك أنها ستضفي قدراً كبيراً من الإثارة على هذه السيرة. فهو يتحدث في هذا السياق مثلاً عن أن أباه كان رجلاً صارماً إلا أنه كان في نفس الوقت محسناً عطوفا على الفقراء. كما يتحدث عن سيجاره الشهير الذي ارتبط به ارتباطاً وثيقاً، وكيف استطاع في النهاية التخلي عن تدخينه، بعد أن حذره الأطباء من مغبة الاستمرار فيه بسبب ضعف صحته، كما يتحدث أيضاً عن إعجابه الشديد بروايات الكاتب الأميركي الشهير "إرنست همنجواي" الذي أحب الحياة في كوبا وعاش سنواته الأخيرة فيها. في الختام نقول إن هذه السيرة التي تطلبت من محرر الكتاب "إيجناسيو رامونيه"، وهو صحفي قدير، غزير المعلومات، عذب الأسلوب، مئة ساعة من اللقاءات مع الزعيم الكوبي، تعد سجلاً شاملاً وواضحاً لحياة غير اعتيادية، لزعيم كاريزمي وغير اعتيادي، نجح على امتداد سنوات طويلة وعاصفة في مواجهة كثير من المشكلات، وساهم بشكل أو بآخر في صياغة العالم على النحو الذي يبدو عليه الآن. سعيد كامل الكتاب: فيدل كاسترو: سيرة حياة المؤلفان: فيدل كاسترو وإيجناسيو رامونيه الناشر: سكريبنر بوك كومباني تاريخ النشر: 2008