عبر المفكر الإسرائيلي "امنون دنكز" في صحيفة "معاريف" (2002) عن "عدم قناعة اليهودي بالوطن القومي اليهودي بسبب فشل القيادات السياسية في التعامل مع المشاكل الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، حيث زاد من فشلها البيروقراطية في جهازها الإداري الذي سيطر على الزعماء السياسيين والقادة العسكريين، وفاقم العديد من المشاكل غير القابلة للحل منذ قيام إسرائيل". ويرى كتاب صهيونيون أن عدداً متنامياً من الإسرائيليين باتوا أمام خيارين: إما إنجاح حكومة تؤمن بأهمية السلام وتسعى لتحقيقه مع الفلسطينيين (وهو أمر مستحيل راهناً على الأقل)، وإما الهروب من إسرائيل والعودة إلى الوطن الأصلي، ويتزايد اختيار الهروب! ويشير عدد من المراقبين الإسرائيليين إلى زيادة كبيرة في عمليات الهجرة العكسية من إسرائيل إلى دول أوروبا وأميركا. وبحسب دائرة الإحصاءات المركزية الإسرائيلية، فإنه لأول مرة منذ 23 عاماً، أصبح ميزان الهجرة اليهودية لإسرائيل "سلبياً"، حيث قدر عدد الذين هجروا إسرائيل، في الأشهر الـ12 الأخيرة، أكثر بخمسة آلاف شخص من الذين هاجروا إليها. ووفق معطيات استطلاع إسرائيلي أكاديمي في عام 2007، فإنه في تسعينيات القرن الماضي، هاجر إلى الولايات المتحدة قرابة 700 ألف روسي يهودي، فضلاً إلى 160 ألفاً هاجروا إلى ألمانيا، و50 ألفاً إلى النمسا، وعشرات الآلاف إلى دول أوروبية مختلفة... مقابل قرابة مليون يهودي روسي هاجروا إلى إسرائيل خلال 13 عاماً حيث بلغ تيار الهجرة القادم من هناك ذروته في عام 2002. وفي الآونة الأخيرة، كثيراً ما تحدثت الصحف الإسرائيلية عن ظاهرة هروب النخب أو ما يعرف بـ"هروب القمة"، مشيرة إلى أن آلاف العاملين في مجال التكنولوجيا والإلكترونيات من الشبان، البالغة أعمارهم بين 22 و30 عاماً، تركوا إسرائيل في العامين الماضيين. ولم تقتصر ظاهرة الهجرة العكسية اليهودية على الشبان، إذ انتشرت بين المئات من أصحاب الشركات العاملة في مجال البناء، حيث فرت من إسرائيل خلال السنوات الثلاث الأخيرة غالبية شركات المقاولات للعمل في مشاريع خارجية. وفي تقرير صادر عن جامعة في إسرائيل (عام 2007)، ظهر أن قسماً لا يستهان به من الإسرائيليين "يعانون يأساً من الوضع السياسي في (البلاد)، ومن الأزمة المالية الخانقة، الأمر الذي دفع عشرات الآلاف منهم (معظمهم من أرباب العائلات) إلى تقديم طلبات للهجرة إلى غرب أوروبا وشمال أميركا". كما أظهر التقرير، أنه منذ بداية عام 2004، قدم أكثر من 40 ألف مواطن إسرائيلي طلبات هجرة إلى الولايات المتحدة وغرب أوروبا، بل وشرقها أيضاً. وأجبرت خطورة الوضع رئيس الوزراء "إيهود اولمرت" على تكليف سكرتير الحكومة "عوفيد يحزقيئل" بالعمل على إعادة 700 ألف إسرائيلي غادروا الكيان منذ بدء الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وذلك من أجل منع فقدان الأغلبية اليهودية للدولة. وفي دراسة لصالح وزارة الاستيعاب الإسرائيلية، تبين أن الـ700 ألف أولئك يرفضون العودة إلى إسرائيل، وأن نسبة كبيرة منهم يمرون بعملية تحول عن اليهودية، مما جعل الوزير "يعقوب ادري" يعرض "المشكلة" على الحكومة الإسرائيلية مراراً وتكراراً، مقترحاً تخصيص 37 مليون دولار لتمويل حملة دعائية لإقناع هؤلاء، خصوصاً الشباب منهم، بالعودة إلى إسرائيل. لقد ضعف الإغراء عند اليهود بأن إسرائيل هي الوطن القومي ليهود العالم. فهؤلاء يعيشون برفاه في معظم دول العالم. ومغريات إسرائيل الاقتصادية على كثرتها، لم تعد توازي ما يحققه اليهود داخل دولهم. فعلى سبيل المثال، استطاع يهود الولايات المتحدة نشر عدد لا يحصى من المعابد ومراكز الشباب، ومنظمات التمويل، والمجموعات الثقافية والتعليمية، ووكالات العلاقات الطائفية، والهيئات الخيرية والتي أغلبها علمانية لكنها تستند إلى أساس اجتماعي وعرقي لليهود، ويشغلون مناصب مهمة في مؤسسات المال والأعمال والإعلام والبنتاغون ووزارة الخارجية والكونغرس ويشكلون جالية ثرية وجيدة التنظيم. وفي سبتمبر (أيلول) 2007، أظهرت دراسة أن اليهود الأميركيين الشبان غير الملتزمين بالتقاليد الدينية اليهودية، يبدون فتوراً متزايداً، إن لم يكن ابتعاداً، عن تأييد إسرائيل في اتجاه من غير المرجح العدول عنه. ووجدت الدراسة أن الاندماج في المجتمع الأميركي -بما في ذلك الزواج من معتنقي الملل الأخرى والميل للنظر إلى اليهودية على أساس ديني لا عرقي -جزء مما يحدث. وقال "روجر بينيت"، نائب رئيس "مؤسسة أندريا وتشارلز برونفمان الخيرية" راعية الدراسة، إنه "بالنسبة لجيل آبائنا كان السؤال المهم هو كيف ننظر إلى إسرائيل. أما بالنسبة لجيل مواليد ما بعد عام 1976، فالسؤال حقاً هو: لمَ يجبُ علينا أن ننظر إلى إسرائيل". ووجدت الدراسة أنه "ربما كان هناك تغير كبير في مشاعر الارتباط، إذ يتحول الدفء إلى عدم اكتراث بل ويتحول عدم الاكتراث إلى انسلاخ تام". وعلى صعيد متمم، فإن الهجرة المعاكسة للروس في ازدياد. فقد أكد تحقيق صحفي نشرته "يديعوت أحرونوت عام 2006 أن ارتفاعاً بنسبة 600% سجل في السنوات الأخيرة في عدد "المهاجرين الروس" الذين عادوا إلى موطنهم الأصلي. وأفادت الصحيفة، نقلاً عن تقرير بعثت به السفارة الإسرائيلية في موسكو إلى كبار المسؤولين الإسرائيليين، أن نحو خمسين ألفاً من المهاجرين الروس إلى إسرائيل مطلع تسعينيات القرن الماضي، يعيشون اليوم في روسيا، وأن 28 ألفاً منهم طلبوا رسمياً الإقامة الدائمة وحصلوا من جديد على الجنسية الروسية. وأشار التقرير إلى أن عدد العائدين إلى روسيا لم يتعد 7500 يهودي عام 2003، أي أن الرقم تضاعف ست مرات في السنوات الأربع الأخيرة. وفي ضوء معطيات جديدة نشرتها مؤخراً مديرية السكان في وزارة الداخلية الإسرائيلية، فإن حوالي 3 آلاف إسرائيلي هاجروا فلسطين، تنازلوا خلال السنوات الأربع الأخيرة عن جنسيتهم الإسرائيلية. وقالت "معاريف"، إن عدد الإسرائيليين الذين يتنازلون عن جنسيتهم الإسرائيلية يزداد من سنة لأخرى. وبينما كان غالبية هؤلاء، في السنوات السابقة، من بين المهاجرين الجدد أو المتقدمين في السنّ الذين خاب أملهم في إسرائيل، فإن غالبية المتنازلين عن جنسيتهم الإسرائيلية في عام 2006 هم من أوساط الشبان المسرحين من الجيش وذوي الدراسات العليا، الذين اختاروا الحصول على جنسية أجنبية والتنازل عن الجنسية الإسرائيلية لأسباب تتعلق بالفائدة الشخصية. وخلاصة القول إن الهجرة الإسرائيلية العكسية تشكل ضربة قاسية لأهم أسس المشروع الصهيوني، وإن تعاظمها يعني تزايد التشكيك اليهودي بجدوى المشروع نفسه.