من ذا يعبأ بما يجري في غواتيمالا التي تعد الدولة الأكثر وحشية في الجزء الغربي من الكرة الأرضية كلها؟ فهناك يتم اغتيال نحو 4 آلاف شخص سنوياً لأسباب سياسية لها صلة بمعارضة النظام الحاكم. وخلال الـ36 عاماً من الحرب الأهلية التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي تم بتمويل وإيعاز من وكالة "سي آي إيه"، وهو الانقلاب الذي أطاح بالرئيس أربينز عام 1954، لقي نحو 200 ألف حتفهم في حوادث ذات صبغة سياسية. وفي تقرير صادر عن الأمم المتحدة حول جرائم الإبادة الجماعية هذه، أشارت نتائج التحقيقات، إلى مسؤولية الجيش عن 93% على الأقل من مجموع حالات القتل والتنكيل. وكما يقول الروائي الأميركي "فرانسيسكو جولدمان"، مؤلف كتاب "فن الاغتيال السياسي"، والذي نعرضه هنا، فإن كان للمرء أن يتعلم شيئاً ما من موطنه الأم، فهو ألا يضفي أي مسحة شعرية أو مثالية على واقعه المرير الحزين. لكن رغم ذلك، فإن الصور الوحيدة التي تثيرها هذه الدولة في الأذهان والخيال، هي القرى والضواحي والمدن التي تم تطهيرها من مجموعات "المايا" الذين شيد أجدادهم حضارتها التاريخية العظيمة. ومن بين كافة جرائم الاغتيال السياسي والوحشية التي شهدتها هذه البلاد في تاريخها القريب، اهتم الكاتب بتسجيل حادثة اغتيال "جوان جيراردي"، كبير الأساقفة والناشط في مجال حقوق الإنسان، بعد يومين فحسب من تقديمه تقريراً مفصلاً عن جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبها الجيش طوال الفترة التي أعقبت اندلاع الحرب الأهلية، ما جعل من الكتاب أقرب إلى التحقيق في مملكة الشر السياسي، وأشبه بالقصة الأخلاقية القائمة على الصراع المستمر بين النخبة الحاكمة والمحكومين في غواتيمالا. فقد كان القس جيراردي شخصية دينية مرموقة ومحبوبة لدى المواطنين، لكنه كان محط كراهية النظام العسكري الحاكم وحلفائه من ملاك الأراضي والمحتكرين، ليس لنشاطه في الدفاع عن حقوق الإنسان ومعارضة النظام الحاكم فحسب، وإنما بسبب تعاطفه وتحقيقه في الجرائم التي ارتكبتها القوات النظامية بحق مجموعات المايا من المزارعين الفقراء. ويذكر أن تقرير جيراردي المشار إليه والذي حمل عنوان "استعادة الذاكرة التاريخية" قد صدر في الرابع والعشرين من إبريل عام 1998، وفي السادس والعشرين منه، لقي القس مصرعه حين قام أحدهم بتهشيم رأسه حتى الموت بعد عودته من منزله ليلاً من وجبة عشاء تناولها مع شقيقته. وقد كان طبيعياً أن تشير أصابع الاتهام مباشرة إلى الجيش وجهاز الاستخبارات التابع له، لمسؤوليتهما معاً عن ارتكاب الكثير من هذه الجرائم المتكررة ولكونهما صاحبي المصلحة الوحيدين في مصرع القس المعارض. غير أن لهذين الطرفين عقوداً ممتدة من التمويه والتستر على جرائمهما، ثم إن لهما من الحيل والنظريات الخاصة بتحديد القاتل، ما يفوق الوصف. فما أن تهترئ إحداها حتى يدفعان بغيرها إلى السطح. وبالنتيجة فقد استمرت جلسات المحاكمة لعدة سنوات، كي توجه الاتهامات لثلاثة من كبار المسؤولين والضباط في جهاز الاستخبارات –أولهم رئيس الجهاز- في يونيو 2001، وفي خلال هذه السنين كلها، اضطر اثنان من ممثلي الادعاء للهرب خارج البلاد، بسبب تكرار التهديدات بالقتل والموسيقى الجنائزية التي تلقياها في شكل رسائل صوتية عبر هاتفيهما. ليس ذلك فحسب، بل تم اغتيال عدد من الشهود والمشتبه بهم في تلك القضية على حد سواء. هكذا وعبر جريمة واحدة، استطاع المؤلف أن يرسم صورة بانورامية شاملة، عن مجمل التاريخ الدموي الذي سطره النظام العسكري في غواتيمالا. يذكر أنه وبوساطة ممتدة من الأمم المتحدة، كان قد تم التوقيع على اتفاقية سلام في عام 1996، بعد خمس سنوات من الجهود المستمرة التي بذلتها المنظمة الدولية هناك. وضمن ما تم الاتفاق عليه، تشكيل"لجنة الإيضاحات التاريخية" المعنية بالتحقيق في الجرائم والفظائع التي ارتكبت إبان الحرب الأهلية. وقد توج ذلك الجهد بإصدار التقرير الأممي "ذاكرة النسيان" في فبراير 1999. وحوى التقرير أدلة مؤكدة على تبني الحكومة لسياسات تنفيذ جرائم القتل الجماعي لمجموعات المايا الهنود بصفة خاصة. ورغم أن تلك الجرائم قد ارتكبت بأيادي أفراد يبدون معزولين عن بعضهم بعضا، إلا أن المسؤولية الجماعية عنها تعود إلى بنية مؤسسية عدوانية بطبيعتها، هي مؤسسة الجيش التابعة للدولة. يشار إلى أن الولايات المتحدة الأميركية، وبدافع حماية مصالحها الاقتصادية والاستثمارية في غواتيمالا، والتي باتت مهددة مع إقدام الحكومة المدنية القائمة آنذاك، على تبني سياسات إصلاحية اقتصادية تضمنت برنامجاً إلزامياً لشراء الأرض من محتكريها أملاً في توزيعها على الفلاحين المحرومين منها، لم تتوان عن وصف تلك الحكومة بالخطر الشيوعي ابتداء، ثم تنظيم وتدريب وتمويل وتسليح مجموعات من المهاجرين الغواتيماليين الذين غزت بهم البلاد وأسقطت حكومتها القائمة، لتحل محلها ديكتاتورية عسكرية باطشة، كانت السبب الرئيسي وراء اندلاع الحرب الأهلية التي عصفت بالبلاد على امتداد 36 عاماً. ومن بين الليبراليين الذين دفع بهم ذلك النظام القمعي إلى خارج حدود البلاد، الطبيب الشاب "تشي غيفارا" الذي تحول إلى أسطورة عالمية للثورة والثوار فيما بعد. والذي بقي تأمله في هذه التجربة –على حد إشارة بعض القراء- هو ازدواجية وتناقض سياسات واشنطن بين غزو باسم الديمقراطية ومن أجلها أحياناً، وبين غزو لنسفها وقبرها في أحيان أخرى. عبدالجبار عبدالله الكتاب: فن الاغتيال السياسي المؤلف: فرانسيسكو جولدمان الناشر: مطبعة "أتلانتك" تاريخ النشر: فبراير 2008