ملَّ الفلسطينيون الاستماع لما يتعلق بتحديد المسؤول عمّا حدث في قطاع غزة، وهم لا يهتمون كثيراً بمن الذي يعطّل الحوار ويمتنع عن تسوية الأوضاع بين "فتح" و"حماس". فأينما حلَّ مسؤول من "فتح" أو من حكومة رام الله، أو من "حماس" من غزة أو من دمشق، كان تحميل المسؤولية للطرف الآخر هو جلّ اهتمام هذا الطرف أو ذاك. والخلاصة التي أخرج بها من حضور بعض هذه الندوات واللقاءات أنّ الناس ليسوا في حالة استقطاب بين الطرفين، ولكن في حالة استهجان لكليهما، وأصبح متوقعاً أن يتحول أي لقاء من هذا النوع لهجوم على المتحدث دون تأييد الطرف الآخر. إذا ما تحدث مسؤول فلسطيني، في ندوة أو لقاء إعلامي، خاصة إذا كان يعبر عن منظمة التحرير الفلسطينية أو فصيلها الرئيسي "فتح"، فالمطلوب منه ألا يتحدث عمّا تقترفه "حماس" في غزة، لأنّه بشكل أو بآخر شريك فيما حصل؛ على الأقل بسماحه بتدهور الأوضاع إلى درجة فوز "حماس" في الانتخابات وقيامها بالانقلاب، والمطلوب بدل ذلك أن نسمع برنامجاً فلسطينياً للخروج من الوضع الفلسطيني الراهن برمته. هناك في علم الاجتماع السياسي ما يعرف باسم ثنائية "الشرعية والفعالية"، أي أن أي سلطة أو نظام سياسي، يُقَيَّم استناداً إلى مدى الشرعية والفعالية، فإما أن يكون نظاماً (شرعياً وفعّالاً)، أو (شرعياً وغير فعّالٍ)، أو (غير شرعي وفعّالاً)، أو (غير شرعي وغير فعّال). كأن يكون منتخباً ومقبولاً شعبياً وناجحاً في أداء مهامه، أو مفتقراً للشرعية الانتخابية ولكنه ناجح في أداء مهامه، أو شرعياً ولكنه فاشل في أداء مهامه، أو يعاني في الجهتين. ومنظمة التحرير الفلسطينية تواجه الآن إشكاليتين: الأولى، إعادة تأكيد شرعيتها بإعادة إنتاج هيئاتها، وتجديد المجلس الوطني الفلسطيني على أسس مقبولة شعبياً وديمقراطياً. والثانية، تفعيل مؤسساتها. وقد عقدت مؤخراً اجتماعات للجنة التحضيرية، للمجلس الوطني. وكما قال المدير العام للمجلس عبد الرؤوف العلمي، قبل أيّام للصحافة، فإنّ النقاش دائر، وهناك استقطاب حول "الدعوة لعقد المجلس بقوامه القديم وبين عقد مجلس وطني جديد"، مما يعني أنّه رغم كل الحديث منذ شهور عن خطوات عملية لعقد المجلس، فإن الأمر لا يزال في طور نقاش المبادئ. إن القضية التي لا ينتبه إليها كثيرون هي "التفعيل"، فإذا كانت إعادة تشكيل الهيئات الفلسطينية التمثيلية (تجديد شرعية أعضائها) مهماً، فإنّ الأصل أن هناك هيئات يمكن تفعيلها دون الدخول في مأزق الشرعية هذا، فمثلاً أجهزة منظمة التحرير البحثية والإعلامية والدبلوماسية، والتعليمية، وتلك المسؤولة عن رعاية شؤون الفلسطينيين وتعبئتهم حول العالم وتمثيلهم، يجب تفعيلها على اعتبار أنّ المنظمة من حيث المبدأ هي الممثل الشرعي والوحيد المعترف به. وكما هو معروف في الممارسة العملية، وفي علم الاجتماع السياسي، فإنّ زيادة الفعالية من شأنه أن يؤدي لزيادة الشرعية، والعكس صحيح، وعلى مدى عقود كانت شرعية المنظمة، نابعة إلى حد كبير من فاعليتها في تمثيل الفلسطينيين، فاكتسبت بذلك ما سمي بالشرعية الثورية، ولم تكن يوماً ما منتخَبَة فعلياً. ما يريده الفلسطينيون حالياً، هو إطار عام يجمعهم، يمكنه استقطاب الطاقات والكوادر الفلسطينية الموزعة حول العالم، ليندرجوا ضمن برنامج وطني فلسطيني عام، وذلك بمعزل عن خلافات "فتح" و"حماس"، وبمعزل عن الإصلاح المتعذر في "فتح". هناك رئيس فلسطيني منتخب، هو رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وليس هناك من يجرؤ على مناقشة حقه في تفعيل مؤسسات منظمة التحرير. لذا فإذا كان مهماً إعادة تشكيل المجلس الوطني، فلا ينبغي ربط كل شيء بهذه القضية، ولابد أن يتم إحياء دوائر المنظمة وتفعيلها لتكون أطر عمل يومية لإيجاد حركة فلسطينية وطنية جديدة، غير فصائلية ومؤسسية (لا أن يجري الحديث عن دمجها في السلطة الفلسطينية). عندما يسمع الفلسطينيون من يحدثهم عن برامج وخطط عمل دبلوماسية وسياسية وإعلامية، واقتصادية وخدمية وتعليمية، فإنهم سيلتفُّون حوله، وعندما تتحول هذه البرامج إلى واقع، فإن إعادة إنتاج الهيئات التمثيلية وتأكيد شرعيتها ستصبح أكثر يسراً.