لا يمرّ أسبوع ٌ أو شهرٌ إلا ونسمع أن إحدى دول الخليج العربية قد تبرعت بملايين بل مئات الملايين من الدولارات -هنا وهناك-في الوقت الذي مازالت مشاريع البنى التحتية في بعض هذه الدول بحاجة إلى ترميم أو إنشاء؟! دول الخليج العربية، التي يُنظر إليها على أنها الفردوس المفقود (Lost Paradise)؛ وأنها تحقق أحلام القادمين إليها من كل فج عميق، وتفتح لهم المشاريع والحسابات قبل الصدور والقلوب، هي ليست كذلك، إذا ما أحكمنا العقل، وحللنا الأمور بطريقة عقلانية! فسكان هذه "الجنة" المفقودة يفتقدون أشياء حيوية كثيرة، لعل أهمها فك طوابير الشباب الذي يتطلع إلى وظائف ملائمة، أو حل طوابير منتظري الأرض والقرض لبناء منزل الزوجية وإنشاء أسرة ناجحة! وفك الطوابير الأخرى للمستفيدين من إعانات الشؤون الاجتماعية -آخر الشهر- لاستلام راتب الإعانات للأسر الفقيرة. أما الطوابير التي لا تخرج من منازلها الضيقة -وتعاني ضنك العيش دون أن تشكو- فهي تلك الطوابير المطالبة بمزيد من الحريات وإرساء مبادئ الديمقراطية والإصلاحات السياسية. وهي القلة التي تدافع وتحاول التغيير بأضعف الإيمان!. ناهيك عن بعض مرافق البنى التحتية مثل المسارح المتطورة أو المستشفيات الصالحة لاستقبال مئات الآلاف من المرضى أو المطارات والموانئ الصالحة لهذا العصر، بل والشوارع الفسيحة التي تحد من الحوادث والازدحام، وغيرها من مرافق البنية التحتية. ونلاحظ من واقع الأحداث، أن بعض الأموال التي يتم التبرع بها لجهات عربية لا يُعرف مصيرها بعد حين. ولا يظهر أثرُها على المجتمع المسكين الذي أرسلت إليه!؟ وهذه قضية مهمة -على دول الخليج أن تبحثها- ذلك أن التحويل النقدي غالباً ما "يضلُّ" طريقه!! ولقد حدثنا وزير سابق -رحمه الله- أن بلاده قد تبرعت بمبلغ للهلال الأحمر في بلد عربي، وخلال زيارة الوزير المختص للبلد سأل الوزير عن مبلغ التبرع حيث إنه لم يصل إلى جمعية الهلال الأحمر!؟ وبعد فتح الملفات تبين أن المبلغ قد أرسل فعلاً لحساب الوزير السابق وليس للحكومة أو الجمعية، ولقد طار الوزير السابق الذي أعطى رقم حسابه للمسؤولين!؟ ولقد ذهب التبرع وهنِئَ الوزير به، بينما الشعب مازال منتظراً الهِبات الأخرى؟ كما سمعنا كثيراً عن بعض شخصيات "النضال" التي كانت تجوب دول الخليج وترجع بشيكات ذات ثمانية أو عشرة أرقام!؟ ولا ندري إلى أين ذهبت تلك المبالغ، لأن الحال على الأرض ما زال كما هو من فقر وعوز وانهيار للبنية التحتية! هذا بالنسبة للبلاد العربية! الإشكالية الأكبر هي التبرعات السخية للدول الأجنبية والأفريقية خاصة! وهي الموبوءة بالانقلابات والفقر والجهل والتقاتل من أجل كرسي الرئاسة! وللأسف، فإن ما يتم بناؤه من أموال الخليج يتم تدميره على أيدي أبناء ذات الشعب!؟ ناهيك عن القتل غير المشروع وهدم البنى التحتية المبنية بأموال خليجية على أيدي الرعاع الذين يحملون السلاح دونما قضية، ودونما علم بخطر البندقية. وكل ذلك التدمير يحدث في بعض الدول التي تستقبل تبرعات دول الخليج. نحن ندرك أننا في الخليج كرماء وطيبون وتُعطي يمينُنا ما لا تعلمه شمالُنا، وبالطبع ندرك أهمية التوازنات السياسية والاستقطابات في المحافل الدولية، ونسعى لبناء سمعة طيبة لبلداننا في الخارج؛ ولكن يجب ألا نغفل عن أهمية حُسن إدارة تلك الهِبات والتبرعات. وحسناً فعلت بعض دول الخليج عندما فتحت مكاتب لها لإعمار بلد عربي، ووظفت فيها موظفين مواطنين، كي تضمن حسن إدارة الإعمار، وألا تضيع بين المصالح والتوجهات المتعاركة!. نحن نعتقد أن الاستثمار الخليجي يجب أن يكون في البلاد العربية! ولكن أيضاً يجب أن توجد بيئة صالحة للاستثمار، لا أن يضع مستثمر عربي آلاف الملايين في مشروع في بلد عربي، ويخسر نتيجة سوء الإدارة والقيود المحلية وقوانين التجارة في ذلك البلد! وهذا هدر كبير ومغامرة مقابل المجاملة التي ليس لها مكان في عالم اليوم. إن الوقت قد حان لترشيد التبرعات والهِبات التي تقدمها دول الخليج للآخرين. وهنا نحن لا نتحدث عن مساعدات الكوارث الطبيعية أو الأوبئة، بل نتحدث عن الشيكات التي تصدر لفئات تتقاتل. فبعض دول الخليج يقدم هبات لفئة والبعض الآخر يمول فئة أخرى تقاتل الفئة الأولى، وكلتا الفئتين لا تثوب إلى رشدها! ومازال الدم الواحد يُراق في الشوارع من أجل الاحتفاظ بالكرسي والزعامة، بل إن التضاد والرؤية غير الواضحة، وغياب المسؤولية هو الذي يجعل من المال الخليجي وقوداً لصبية يعتدون على مؤسسات الدولة الناشئة، ويحرقون المدارس والمستشفيات ومراكز الشرطة التي تبنيها الأموال الخليجية. وعلى الطرف الآخر من القضية يوجد من يسعى لبناء الدولة ويعقد الاتفاقيات والمواثيق مع عالم الأحياء ضد عالم الأموات!؟ إن دول العالم المتحضر -وإن تبرع بعضها بعد مؤتمر "أنابوليس"- قد انتبهت لمواقع الصراع والتقاتل في العالم، وبدأت تقنين تبرعاتها، وتُحجِّم شيكاتها طبقاً للواقع على الأرض، خصوصاً بعد ظهور الأخبار الخفية عن التلاعبات التي تحصل عندما يتم تسليم "حامل الشنطة" المال نقداً، أو بشيك محترم يضلُّ طريقه عن خزينة الدولة.