كان فيدل كاسترو مثيراً للجدل على مدى سنوات حكمه الطويلة، التي بلغت الخمسين إلا واحدة. الخلاف بين من اختلفوا عليه تجاوز الأطر المعتادة التي تحكمها اتجاهاتهم السياسية والفكرية. لم يكن كل من وجدوا في أدائه إيجابيات منتمين لاتجاهات اشتراكية أو شيوعية، أو من ذوي النزعات الثورية. أما من صبوا عليه اللعنات فلم يكونوا كلهم من أهل اليمين وأنصار الديمقراطية وحرية السوق. كما أن بعض الجدل حوله انصب على شخصه وطريقته في الحكم، وفي الحياة، وقدرته على التواصل مع الجمهور والتأثير فيه، وهيبة إطلالته بزيه الزيتي الذي لا يغيره، ولحيته وسيجاره اللذين صارا جزءاً لا يتجزأ من تكوينه. لا غرابة في ذلك، لأن كاسترو يمثل ظاهرة خاصة يصعب إدراجها ضمن الأنماط المعتادة للحكام الثوريين أو الاشتراكيين –الشيوعيين أو المتسلطين– الطغاة. فإذا كان فيه شيء من هذه الأنماط كلها، فلديه أيضاً ما هو أبعد منها. ومع ذلك لم يكن متصوراً أن يثير قراره بالتنحي ورسالته الوداعية قبل أيام قليلة كل هذا الفيض من الأصداء وردود الأفعال. فما أثير حوله من الجدل لم يترك مجالاً لنقاش جديد، أو هكذا بدا حين أرغمه المرض على أن ينقل صلاحياته إلى شقيقه راؤول في يوليو 2006. فما كاد نبأ تنحيه يُعلن رسمياً حتى أخذ طريقه إلى الصدارة، رغم جسامة الأحداث التي تزامنت معه في سائر أنحاء العالم. وما بين تعليقات رسمية على أعلى مستوى في كبريات العواصم، وتغطيات إعلامية واسعة، أثبت كاسترو أنه يمثل ظاهرة يندر أن تتكرر. لذلك يتعين التزام الحذر في تقييم عهده الطويل والحكم عليه. فهو لا يمكن أن يكون شيطاناً، كما يراه كثير من خصومه، ولا ملاكاً على نحو ما يصوره أنصاره وأعداء الولايات المتحدة والغرب. وبمنأى عن هذه النظرة المانوية التي تقسم العالم إلى خير وشر، يبدو كاسترو طرازاً خاصاً من القادة التاريخيين الذين يتلبسهم شعور جارف بأنهم أصحاب رسالات كبرى ينذرون حياتهم لها ويبذلون أقصى ما لديهم من جهد لتحقيقها. ولأن هذه الرسالات تتسم بطابع مثالي غالباً، فمن الضروري أن يكون في أدائهم بعض الترفع والسمو من ناحية، ونوع من القسوة والعنف من ناحية أخرى. وكاسترو واحد من هؤلاء. وهو كأي زعيم تاريخي، أراد أن يكون الكوبيون كلهم بالمواصفات التي اعتقد أنها هي الملائمة لإنجاز رسالته في مواجهة الإمبريالية وخوض ما أرادها أن تكون آخر وأطول حرب ضدها. كان هذا هو ما كتبه في رسالة إلى أحد أصدقائه عام 1958 حين تأهب للثورة: "أنا ذاهب لإطلاق آخر وأطول حرب موجهة ضد الإمبريالية". غير أن كاسترو لم يكن مجرد زعيم ثوري تاريخي حمل، أو أقنع نفسه بأنه يحمل، رسالة كبرى. فكم من زعيم على هذه الشاكلة عرفه العالم في مرحلة تصفية الاستعمار وانتصار الاشتراكية في العالم. وهو كان ابن هذه المرحلة بكل ما تضمنته من صراعات وأطلقته من تداعيات. كان العالم يموج بالثورات الوطنية والاشتراكية عندما نجح كاسترو وتشي جيفارا في إسقاط نظام باتيستا الدكتاتوري عام 1959. لم تكن بضاعته نادرة ولا رسالته جديدة. لذلك يتعين أن نسأل عما جعله، هو تحديداً، ظاهرة متميزة ظلت تتسم بطابع خاص حتى بعد أن تغير العالم الذي ظهرت فيه وانحسرت التجارب التي تشبهها، سواء قل الشبه أو كثر؟ ربما يعود ذلك إلى عاملين: أولهما الاستمرارية التي لا مثيل لها، رغم "الزلزال" الذي ضرب المعسكر الاشتراكي، فقلبه رأساً على عقب. ظلت كوبا واقفة على قدميها، وبدت لمن تعاطفوا مع ظاهرة كاسترو عصية على السقوط بعد أن فقدت علاقات وروابط أتاحت لها من المساعدات ووفرت لها من الحماية ما كانت في أشد الحاجة إليه. فقد تمكنت من استعادة توازنها بسرعة، بعد أن هزتها توابع "الزلزال" الذي قوض قوة دولية عظمى وأزال معسكراً عالمياً بأكمله. نجح كاسترو في عبور المحنة الأعظم، مثلما عبر غيرها مما هو أدنى درجة. وتحمل معظم الكوبيين تبعات المحنة كما تعودوا دائماً. وعانى معظمهم شظف العيش، لكنهم ظلوا أفضل حالاً من نظرائهم في بلاد أخرى. فقد تمتعوا، ومازالوا، بأحد أفضل نظم الرعاية الصحية في العالم. وتخلصوا من عار الأمية، وحصل أبناؤهم على تعليم يعتبر أحسن مما أتيح في بلاد أخرى أكثر ثراء ورفاهية. كما أن نمط حياة الكوبيين الهادئ الرتيب وغياب النزعة الاستهلاكية في ثقافة مجتمعهم، وفرا لهم وقت فراغ لا ينعم بمثله معظم الناس في بلاد ترتفع فيها مستويات المعيشة. ويقودنا ذلك إلى العامل الثاني الذي قد يفسر خصوصية ظاهرة كاسترو وتفردها، وهو أن محيطها في أميركا اللاتينية كان في أسفل الدرك حين بدأ كاسترو إرساء دعائم تجربته. كان الفقر والبؤس والجهل قاسماً مشتركاً بين كثير من دول أميركا اللاتينية التي أُطلق عليها، حينئذ وعن حق، جمهوريات الموز والبن. وإذا كانت هناك تجليات لسياسة إمبريالية مارستها الولايات المتحدة فعلاً في ذلك الوقت، فهي في تلك المنطقة تحديداً، وربما على سبيل الحصر. كانت أميركا اللاتينية هي "الحديقة الخلفية" للولايات المتحدة، منذ أن أعلن الرئيس جيمس مونرو انسحابها من الحروب الأوروبية وتفرغها لما أسماه حماية أميركا الوسطى والجنوبية، وحذر الدول الأخرى من التدخل في شؤونها ضمن ما عرف باسم "مبدأ مونرو" عام 1823. وترتيبا على ذلك، تدخلت واشنطن مراراً لمنع قيام اتحاد بين عدد من دول المنطقة، بعد استقلالها عن إسبانيا. وكان تدخلها العسكري أمراً معتاداً لحماية شركات الموز والفواكه. لذلك لم تشعر أغلبية الكوبيين بالغبن عندما فرض كاسترو نظامه الحديدي، إذ لم يكن لديهم ما يفقدونه. وفضلاً عن أن فقراء كوبا صاروا أفضل حالاً، فقد أصبحوا أكثر شعوراً بكرامتهم وهم يرون زعيمهم يناطح القوة العظمى الأولى التي عجزت عن إسقاطه أو إسكاته. ونضيف، هنا، عاملاً ثالثاً يفسر خصوصية ظاهرة كاسترو، وهو نجاحه في إقامة علاقة مباشرة مع أغلبية الكوبيين الذين تعودوا على الاستماع إلى خطبه التي كان امتدادها لساعات طويلة يبعث على السأم، لولا طريقته الخاصة في الخطابة والتي يشعر كل شخص كما لو أنه يتوجه إليه بالحديث. وفي غضون ذلك، وعلى مدى النصف الأول لفترة حكم كاسترو، لم تكن لمبادئ الحرية الفردية والحقوق المدنية أهمية تُذكر في العالم. غير أنه مع ازدياد الاهتمام بهذه المبادئ، أخذت كوبا تظهر باعتبارها أحد "السجون" المغلقة على مواطنيها، الذين لا يمكن القول إن أغلبهم شعروا بذلك. ولكن حتى إذا كانوا قد تعودوا على الحياة في ظل كاسترو بلا حرية ولا حقوق ولا طموح، فلا ريب أن هذه جريمة ارتكبها عندما حرم شعبه من أبسط حقوقه الإنسانية. وإذ يغادر كاسترو المسرح الذي اعتلاه منفرداً لنحو نصف قرن، يبدو السؤال المحوري الذي يخلفه وراءه هو: متى سيتاح للكوبيين التحرر من أسر الظاهرة الكاستروية؟ وهل يبدأ هذا التحرر تدريجياً خلال حكم شقيقه راؤول الذي يبدو أكثر مرونة واستعداداً لبعض التغيير، أم سيتعين عليهم انتظار رحيله هو الآخر بحيث تكون ولايته مرحلة انتقال قد لا تطول بسبب تقدم سنه، وهو الذي يصغر الزعيم المتنحى بخمس سنوات فقط، وما يتردد عن مرضه؟ وفى كل الأحوال، تبدو كوبا الآن وكأنها تستعد لولوج عصر جديد، وليس مجرد مرحلة أخرى في تطورها. وربما لا يمضي وقت طويل حتى يبدأ الحديث عن كوبا في عصر ما بعد الثورة، وليس فقط في مرحلة ما بعد كاسترو، أمراً معتاداً. لكن يظل السؤال الذي تبدو الإجابة عليه صعبة الآن هو: هل يكون لكوبا في عصرها المقبل الأهمية والمكانة اللتان حظيت بهما في عصرها السابق؟ وهل سيعرف الناس، من أدنى العالم إلى أقصاه، أسماء قادتها الذين سيكونون على رأس هرم السلطة فيها، مثلما عرفوا القائد الذي شغل الدنيا وملأها أفعالاً، وليس فقط كلاماً؟