موت عماد مغنية القائد العسكري في "حزب الله" يوم 15 فبراير الجاري في دمشق، يعيد إلى ساحة الحوار السياسي والثقافي سؤالا مهما من جديد وهو: ما الذي يفصل بين البطولة والإرهاب وبين الشهادة والانتحار؟ لقد اختلف العرب في موت مغنية بغض النظر عن كونهم شيعة أو سُنة، فبعضهم اعتبره شهيداً وبكى عليه بكاء الأب على فقد ابنه الوحيد، وبعضهم الآخر اعتبر موته نهاية طبيعية لإرهاب ارتكب الفظائع طوال ربع قرن من الزمان. لا أناقش إن كان مغنية شهيداً أو مجرماً، فهو واحد من عشرات بل مئات اختلف وسيختلف على تصنيفهم العرب، ففي زمن التناقضات والاختلافات، وزمن الثقافة المترددة، فإنهم يضيعون بين فريقين فريق يرى هذا الموت شهادة وخسارة للأمة وآخر ينتظر سماع خبر عن موت شخص آخر على شاكلته. أما الغرب فقد حددوا موقفهم من هؤلاء واعتبروهم إرهابيين وقالوا إن "العالم يكون أفضل بكثير بمجرد اختفائهم عنه". والشارع العربي الذي ينقسم تجاه مغنية -و"حزب الله" الذي يعتبر جزءا منه- إلى قسمين، الأول مؤيد وسعيد بنضاله ضد إسرائيل، والثاني معترض كونه ينفذ الأجندة الإيرانية في لبنان والمنطقة العربية، الأمر الذي أدى إلى قيامه بأعمال قد تكون ضد المصلحة العربية.... فمن لا يرى إلا نضاله ضد إسرائيل يعتبره بطلاً وشهيداً بل من أكبر شهداء العصر، أما من ينظر إلى تبعيته إلى إيران والأعمال التي نفذها للأجندة الإيرانية داخل لبنان والعراق وضد بعض الدول العربية، لا يمكن إلا أن يطلق عليه صفة "إرهابي ومجرم". من المهم أن تُسمى الأمور بأسمائها، فلا يتم الخلط بين العمليات الإرهابية والأخرى البطولية أو عمليات المقاومة، كما يجب عدم الخلط بين الانتحار والعمل البطولي، والأهم من ذلك ألا تستمر سياسة العرب في الكيل بمكيالين، فإن وجهت عمليات القتل والتخريب إلى الآخرين يتم التصفيق لها والفرح لوقوعها، وإذا مات منفذو تلك العمليات يطلق عليهم شهداء وأبطال، أما إذا كانت العملية داخل دولة عربية وضد مواطنين عرب يعتبرها "أهل المكيالين" عملية إجرامية ومرتكبها إرهابي وخائن؟! في مجتمعنا العربي هناك فكر عربي واحد من المحيط إلى الخليج يتعامل مع مسألة الشهادة والانتحار والإرهاب بطريقة غير عادلة وغير عقلانية في بعض الأحيان! فكثير من الشعب العربي، يرى أن كل من يقوم بعمليات ضد أعدائه هو بطل، وإنْ مات فهو شهيد، بغض النظر عن دوافع منفذها وعن مبررات هذه العملية ونتائجها. بالنسبة إلى وضع عماد مغنية، من المهم الإشارة إلى أنه بدأ نشاطه المسلح في ثمانينيات القرن الماضي عندما كانت بيروت تعيش بدايات الحرب الأهلية وبعد الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982. وفي ذلك الوقت لم يكن ما يقوم به مغنية مختلفاً عما كان يحدث في بيروت وما يفعله الكثيرون غيره، فالجميع كان يمارس القتل على الهوية والخطف وكان استهداف الأجانب والرعايا العرب أمراً "عاديا" بين جميع القوى المتحاربة، بالإضافة إلى أنه في نفس الفترة كانت المقاومة الفلسطينية تستخدم كل الوسائل للفت أنظار العالم إلى القضية الفلسطينية، فقامت بخطف الطائرات وبالتفجيرات والاغتيالات والعمليات الانتحارية وكل هذه الأعمال لم يكن العالم يصنفها في ذلك الوقت كونها عمليات إرهابية بل عمليات مقاومة شريفة ضد العدو. نفذ مغنية العديد من العمليات التي شهدت عدداً قياسيا من الضحايا ابتداء من مشاركته في استهداف جنود البحرية الأميركية عام 1983 داخل بيروت قُتل فيها241 جندياً أميركياً، وكذلك اختطاف مدير الـ"سي. أي. إيه" في بيروت "ويليام بيكلي" عام 1984. ثم خطف طائرة "تي. دبيلو. اي 874" في عام 1985. وقد يختلف البعض أو يتفقون على أن هذه العمليات إرهابية أو بطولية حسب الزمان والمكان والظروف التي حدثت فيها. ولكن من يختلف على أن قتل مجموعة من المواطنين الأبرياء ومحاولة اغتيال أمير دولة عربية عملية إرهابية وإجرامية، فهذا ما حدث في الكويت. فضلاً عن تفجير مبنى سكني في مدينة الخبر في السعودية عام 1995 وقتل 19 شخصاً؟! بالمقارنة بثلاثة عقود مضت، نجد أن المعايير تغيرت كثيراً اليوم وقل عدد المناضلين الشرفاء الذين لم تتلطخ أيديهم بالدماء البريئة أو لم تتلوث بمصافحة عدو لا يحترم وعوده ولا يقبل إلا بلغة الحرب، هذه هي الحقيقة التي صعب على البعض إدراكها، فمنذ ذلك الوقت إلى اليوم، حتى بعض من كانوا مقاومين شرفاء تغيروا، فمنهم من استمر في نضاله ضد أي أحد أو أي شيء أو مع أي جهة! ومنهم من مد يده للعدو وقبله كصديق. وقليل جداً منهم بقوا على مبادئهم واستطاعوا أن يتأقلموا مع المتغيرات. الملفت في قصص أولئك الإرهابيين أنهم ينتقلون بمراحل مختلفة، فقد يبدأ بعضهم بداية مشرفة، فيكون مقاوماً يحارب المحتل أو جندياً يحارب العدو ويستمر في هذا العمل النضالي الذي لا يختلف اثنان على أنه عمل بطولي يستحق أي إنسان يقوم به أن ينال صفة البطل، وإذا ما قتل في أرض المعركة وساحة القتال فهو شهيد، لأن ما يقوم به واضح فالموت في سبيل الوطن شرف لأي إنسان. أما التطور غير الطبيعي لحالة بعض المقاومين والثوار، هو أنهم يتحولون بعد زمن من مقاومين شرفاء إلى أشخاص تعودوا على القتل والتدمير، فإذا اختفى العدو الحقيقي يبدأون بالبحث عن أي عدو آخر يمارسون معه هواية العنف. وبعضهم يذهب بعيداً عندما يحترف مهنة القتل، فينتقل من مكان لآخر لينفذ عمليات -مدفوعة الأجر- يدرك أنها ليست عادلة، ولكنه لسبب ما يقبل على تلك "الجرائم" فيتحول من بطل وطني يقاتل على أرض وطنه ويدافع عن أبناء شعبه إلى قاتل محترف يتنقل بين الدول لينفذ عملية هنا وأخرى هناك، وهو بذلك ينشر الخوف والرعب، ليس على مستوى الأشخاص، بل وحتى على مستوى الدول، وبالتالي يتحول إلى شخص مطلوب للعدالة العالمية وعندما يقتل فإنه بلا شك لا يمكن اعتباره شهيداً حتى لو أصر البعض أن يطلق عليه هذه الصفة، أو أراد أن يمنحه "صكوك الشهادة" التي صارت توزع بالمجان! الحالة التي تمر بها الدول العربية صعبة وخطيرة، وليس أدل على ذلك مما حدث وما يزال يحدث في الكويت من موقف شعبي ورسمي صارم وحاد تجاه النائبين البرلمانيين الكويتيين عدنان عبدالصمد وأحمد لاري، اللذين اعتبرا مغنية شهيداً وشاركا في إقامة مجلس عزاء وتأبين له، وفي إرسال وفد لتقديم العزاء لـ"حزب الله" متجاهلين بذلك دور مغنية الرئيسي في محاولة اغتيال أمير الكويت السابق جابر الأحمد وقتل عشرة كويتيين في تلك المحاولة، وكذلك عملية اختطاف طائرة "الجابرية" عام 1986 وقتل اثنين من ركابها الكويتيين وهما عبدالله الخالدي واسماعيل أيوب، الأمر الذي طرح تساؤلاً خطيراً في المجتمع الكويتي، وهو هل ولاء هؤلاء لوطنهم أم لطائفتهم ولـ"حزب الله"؟! وهذا سؤال مهم والإجابة عليه حتمية. وفي دول أخرى تكرر الأمر نفسه، ولكن بصورة أكثر هدوءاً، وهذا يعني أن نجاح "بعض الجهات الخارجية" في زعزعة التماسك الوطني في بعض المجتمعات والدول العربية وللتاريخ نقول إنه قبل استقواء "حزب الله" لم تكن النعرة الطائفية موجودة بالصورة الحالية، ولم تكن التصنيفات على أساس المذهب بهذه الحدة التي نراها اليوم وبطريقة تؤكد أنها تجد من يغذيها، وبلا شك أن النظام الإيراني يلعب دوراً منظماً في هذه المسألة.