"إن عقل هذه الأمة المدرب على التصويب على الأشياء المنخفضة يتغذى على نفسه" على الرغم من أن الشاعر الأميركي المعروف "رالف والدو ايمرسون"، كتب هذه الملاحظة عام 1837، فإن صداها لا يزال يتردد على نحو مؤلم في أميركا حتى يومنا هذا. الأميركيون يواجهون في الوقت الراهن مشكلات ثقافية، وهم أيضا معرضون لخطر فقدان رأس المال الثقافي الذي اكتسبوه بالمشقة والجهد، لصالح مزيج مسموم من النزعات المناوئة للثقافة، والمناوئة للوطنية، والتوقعات المنخفضة. وهذا الموضوع هو آخر ما يرغب أي مرشح رئاسي في مناقشته. يرجع هذا لأنه من المستحيل تقريباً على مثل هذا المرشح، أن يتحدث مثلاً عن الكيفية التي يساهم بها الجهل الشعبي في خلق المشكلات الوطنية الخطيرة، لأن ذلك سيجعل الآخرين يتهمونه بأنه ينتمي إلى طبقة "النخبة"، وهو اتهام قد يؤثر على حظوظه الانتخابية. ومثل هذه المسميات- بصرف النظر عن صحتها من عدمه- تعتبر سمة رئيسية من سمات نزعة مناوئة للثقافة في أي عصر من العصور. ومن الأعمال الكلاسيكية عن هذا الموضوع كتاب"ريتشارد هوفستادتر" المعنون بـ"نزعة مناوئة للثقافة في الحياة الأميركية"، والذي يرى فيه "هوفستادتر" أن تلك النزعة تمثل ظاهرة دائرية أي أنها تكون موجودة في وقت ما، ثم تختفي، لتعود إلى الظهور وهكذا دواليك، وأنها تتناقض مع القيم الديمقراطية الأميركية في مجال الدين والتعليم. وتعليقي على ما كتبه "هوفستادتر" هو أن أبرز سمات تلك الظاهرة التي كانت دائرية في عهده، ثم تحولت إلى ما يشبه الطوفان الآن هي تفوق ثقافة الفيديو،على ثقافة الكلمة المطبوعة، وضعف المستوى المعرفي للأميركيين في موضوعات الجغرافيا والعلوم والتاريخ، والامتزاج بين النزعة المضادة للعقل، والنزعة المضادة للثقافة. ففي أميركا اليوم هناك انحسار كبير لعادة القراءة، وتسرب للطلاب في مراحل التعليم المختلفة- وهو ما يمثل السمة الأولى للنزعة المضادة للثقافة. في هذا الصدد، أشار تقرير "الوقفية الوطنية للفنون" العام الماضي أنه في 1982 كان 82 في المئة من الأميركيين يقرأون الروايات والأشعار من أجل المتعة، أما الآن وبعد عقدين من الزمان، فإن عدد من يفعلون ذلك لا يزيد عن 67 في المئة. وجاء في التقرير أيضاً أن ما يزيد عن 40 في المئة من الأميركيين ممن هم دون سن 44 عاماً لم يقرأوا كتاباً واحداً خلال عام كامل، وأن نسبة الشبان الأميركيين الذين لم يقرأوا شيئاً خلال عام كامل(سوى ما يطلب أداؤه من واجبات مدرسية) قد تضاعفت خلال الفترة ما بين 1984 و2004. وأنا لا أستطيع شخصياً إثبات أن القراءة لعدة ساعات في مكتبة كما كنت أفعل عندما كان عمري 13 عاماً، أكثر فائدة من حيث زيادة معرفة الطلاب، من الإبحار لساعات على شبكة الإنترنت... ولكن ما أستطيع أن أقوله هو إن القراءة تتطلب قدرة على التركيز لساعات طويلة أكثر من القدرة اللازمة لقراءة بعض المعلومات المتناثرة على الشبكة. وفي رأيي أن ذلك، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بما نلاحظه حالياً وهو: عدم قدرة الجمهور على تذكر الأحداث التي مضى عليها بعض الوقت، بل وعدم قدرته أحياناً على تذكر أحداثاً قريبة، وقلة اهتمام المرشحين الرئاسيين بالحديث عن العراق، وهو ما يرجع إلى أن عدد التقارير المصورة عن أحداث العنف في ذلك البلد قد أصبحت أقل مما كانت عليه كثيراً. وتقلص "زمن انتباه" الجمهور في أميركا، مقارنة بما كان عليه الأمر في السابق- وهو ما يرجع إلى طغيان ثقافة الصورة في الأساس- يرتبط ارتباطاً وثيقا بسمة أخرى مميزة للنزعة المضادة للثقافة ألا وهي تآكل المعرفة العامة. فالجمهور الأميركي الذي اعتاد على سماع رئيسه وهو يشرح أكثر خياراته السياسية تعقيداً بالقول بصوت مرتفع:" أنا من يقرر الأمور هنا"، قد يجد من المستحيل عليه تقريباً أن يتخيل كم المعاناة التي تحملها الرئيس "فرانكلين روزفلت" في تلك الشهور الكئيبة التي أعقبت هجوم" بيرل هاربر"، كي يشرح للشعب أن القوات المسلحة الأميركية تتعرض لهزائم متتالية في المحيط الهادي. في ذلك الوقت، وأثناء خطاب متلفز، طلب روزفلت من المشاهدين أن يفردوا خريطة أمامهم، كي يستطيعوا أن يفهموا جغرافية المنطقة، ويصبحوا بالتالي أكثر قدرة على فهم ما يقوله، مما يهيئهم لاستيعاب الأخبار السيئة الذي كان يتعين عليه أن يبلغهم بها من آن لآخر". إن ذلك لا يبين الفارق بين نوعية الرؤساء في الماضي والرؤساء الآن، ولكنه يؤشر أيضاً إلى بلد مختلف، ومواطنين مختلفين، كانوا أكثر تقبلاً للعلوم، وأكثر استعداداً للغوص في الأمور الصعبة والمعقدة مما هم عليه الآن. يقودنا هذا إلى السمة الثالثة من سمات نزعة مناوئة للثقافة ألا وهي عدم الإحساس أساساً بالافتقار إلى المعرفة. فالأميركيون لا يدركون حتى الآن، أنهم لا يعرفون لغات أجنبية بالقدر الذي تعرفه شعوب أخرى، ولا يعرفون مواقع الكثير من دول العالم المهمة، بل إن الأسوأ من هذا وذاك، أن الكثيرين منهم يقولون إنه ليست هناك حاجة لمعرفة ذلك في الأساس. في رأيي أنه ليس هناك علاج سريع لهذه الظاهرة- خصوصا وأن الناس الذين يجسدون وجودها لا يدرون عنها شيئا- وأن وقت إجراء أي مناقشة جادة حول ما إذا كنا- كدولة- نقدر الثقافة والعقل أم لا- قد فات. لذا أجد لزاماً عليّ القول إنه إذا ما كانت الانتخابات التالية ستتمخص عن انتخابات تحتل فيها أجندة التغيير مكانة متميزة، فإن المستوى المنخفض للخطاب، في دولة ذات عقل تدرب على التصويب على الأهداف المنخفضة فقط، يجب أن يكون هو البند الأول على أجندة التغيير هذه. سوزان جاكوبي ـــــــــــــ كاتبة ومحللة سياسية أميركية صدر لها مؤخرا كتاب:"عصر اللاعقل الأميركي" ـــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"