كان لقاءً فذاً ذلك الذي جمعني مع ثلّة من شيوخ وشباب أحد أحياء مدينة دمشق، وكان مؤلفاً من مثقفين وكتاب وطلبة جامعيين، إضافة إلى عدد من "حكماء" الحيّ والمدينة. أما المناسبة التي جمعتني مع هؤلاء في الأسبوع المنصرم فقد تمثلت في أن مجموعة منهم تتابع مطالعة صحيفة "الاتحاد" العتيدة، وخصوصاً المحور الفكري الذي تقدمه أسبوعياً تحت عنوان "وجهات نظر"، تابعت ما نشرته من كتابات انبثقت عن ندوة أقامتها الصحيفة منذ بضعة أشهر حول قضايا الثقافة والخصوصية الثقافية من طرف، والعولمة من طرف آخر. ومتابعة منها لتقاليدها الديمقراطية في حوارات مفتوحة بنّاءة، فقد جاءت الجلسات التي انعقدت حولها بكمٍ ملحوظ من المسائل والقضايا والمشكلات التي منها ما اتُفق عليه ومنها ما ظل مفتوحاً. وإذا كان اللقاء الدمشقي قد وقف عند بعض ما تناولته ندوة "الاتحاد"، إلا أن الحضور وسّعوا دائرة الحوار بحيث شمل مسائل أخرى، تدخل في نطاق العنوان العام، وهكذا. أما الملاحظة التي أتى عليها معظم الحضور، فقد تطرقت لموقع الولايات المتحدة في النظام العولمي الجديد ودورها في العالم العربي، وخصوصاً في العراق. ومن الطريف أن عدداً مِمّن أتى على هذه المسألة -وكانت النساء يشكّلن نسبة كبرى منهم- وصلوا، بعد مناقشة مركزة إلى أن الولايات المتحدة لو أرادت "تصويب" موقفها من العراق، لكان عليها أن تعتذر من الشعب العراقي على احتلال بلده، وتعلن خروجها منه وتسليمه لشعبه، بعد كذا وكذا من الإجراءات الأمنية والسياسية خصوصاً، بدلاً من الإعلان عن دعم الولايات المتحدة لاحتلالها العراق باسم "الديمقراطية ومكافحة الفساد والاستبداد". فإسقاط هذين الأخيرين هو من شؤون الداخل العراقي وليس الخارج، كائناً من كان، ذلك لأن اللجوء إلى مثل هذا الموقف الأميركي من شأنه أن يصدع النظام الدولي العام. وذكرت سيدة فنانة أن الانتصار للولايات المتحدة هو أمر يعني الوقوف في وجه "أخطائها"، التي قد تهدد السلم البشري، فيكون ذلك بمثابة انتصار للحقيقة، التي دافع عنها علماء وحكماء وسياسيون أميركيون كبار. أما موقف مجموعات من المثقفين العرب من ذلك على أساس "دعم غير نقدي وغير مشروط بالعقلانية السياسية"، للولايات المتحدة، فهو أمر يسيء للجميع. وبعد ذلك، التفت الحضور إلى المحور الآخر المتصل بالثقافة العربية، متسائلاً فيما إذا كانت العولمة تتوافق مع ثقافات الشعوب المختلفة ضمن لوحة موزاييكية تشهد بغنى العالم الثقافي، مع تركيز على أهمية الحوار بين الثقافات والحضارات في العالم. وتوقف الحضور أمام "الثقافة العربية" وإمكانية أن تكون نداً لـ"ثقافة" العولمة، بهدف الحوار معها أو اتخاذ موقف ما آخر منها. ولوحظ أن فريقاً من الحضور -ومعظمهم مِمّن أعمارهم في ريعان الصبا والشباب- كان يحمل هماً بل هاجساً حيال هذا المحور. لقد تتالت التساؤلات بصيغ مُفعمة بالقلق الوجودي، نعم الوجودي: هل علينا أن نأخذ على محمل الجد ما تخرج به علينا دوريات ومؤتمرات وندوات من أن "الثقافة العربية" هي مصطلح زائف نتساوى فيه شكلاً، مثلاً، مع مصطلح "الثقافة الغربية"؟ نقول "شكلياً"، لأن بعض الكتاب والمثقفين المحسوبين على الثقافة العربية يعلنون جهاراً أن هذه الأخيرة "بوصفها الإطار المرجعي للعقل العربي، نعتبرها ذات زمن واحد منذ أن تشكلت إلى اليوم، زمن راكد يعيشه الإنسان العربي مثلما عاشه أجداده في القرون الماضية"، أما "الثقافة الغربية" فهي -بحق- ثقافة عظيمة، لأنها تتأسس على مبدأ محدّد هو: العقلانية النقدية الديمقراطية. وعقداً على هذا السؤال المعقد والمركّب، بادر باحث جامعي بالقول: إذا انطلق مثقفون عرب من أن مآل البشرية هو التأسيس لـ"عولمة تعني خضوع البشرية لتاريخية واحدة... بمعنى أنها تجري في مكانية ثقافية واجتماعية وسياسية موحدة أو في طريقها للتوحيد"، فإننا نفهم أن ذلك سيتم لصالح الهيمنة السياسية والاقتصادية والعسكرية، التي يملكها الغرب القوي-الأميركي. وقد لخصت أستاذة زميلة ما قُدّم في اللقاء الدمشقي على النحو التالي: إن النظر إلى العولمة من داخلها يجعلها حلاً ناجعاً لنا نحن العرب الذين يعيشون منذ ألف ومائتي عام في زمن راكد خارج التاريخ. فالقصور في البنية الثقافية العربية والتقصير المرافق له، يطالباننا بالإسراع لإيجاد موطئ قدم لنا في النظام العولمي، هكذا بطواعية. وقد ذكّرنا ذلك بنصيحة "شارل مالك" في كتابه "المقدمة": "إذن، ما علينا، إلا أن ندخل في حذاء الغرب".