رغم حرص الرئيس بوش على تأكيد الطابع الإنساني لجولته الأفريقية التي جرت ما بين 15 و 21 فبراير 2008 إلى حد إطلاق بعض إعلامييه على الرحلة "بعثة الرحمة"، فإن زوايا حادة أخرى برزت حول الزيارة وأثناءها بما لم يبد متوقعاً إلى حد كبير، ذلك أن الزيارة بدأت أول الأمر في صورتها المتوقعة كتلميع للرئيس في أواخر فترته في الحكم من جهة أو تلميع الرحلة مجتمعة للحزب "الجمهوري" نفسه خلال فترة الانطلاق للانتخابات الرئاسية القادمة أواخر عام 2008، ومن هنا كانت الإشارات الأولية المتكررة عن "بعثة الرحمة"، التي تشمل متابعة الرئيس لمصير الأموال التي خصصها لمحاربة مرض الإيدز الخطير (15 مليار دولار منذ 2003)، بالإضافة إلى عنايته بمرضى الملاريا، وجوع الأطفال...إلخ، ومحاولته الجديدة لرصد أموال أكثر لمرضى الإيدز، وتنشيط مبادرة الألفية لمواجهة الفقر، وبعض مشروعات التنمية السريعة، كما بدا مما رصدته إدارته لبعض الدول التي يزورها مثل بنين وغانا وتنزانيا. لكن ما أن بدأت الرحلة إلى القارة حتى بدأت التساؤلات عن أهدافها البعيدة، وعن اختيار هذه الدول دون غيرها، وعن علاقتها ببعض المشكلات الحية في القارة مثل دارفور وكينيا والصومال، فضلاً عن التساؤلات الكبيرة حول الموقع المحتمل للقيادة العسكرية الأفريقية (أفريكوم)، وعن انطلاق الصراع العلني مع الصين. عقب أجواء الدعاية الانتخابية بدا أن اختيار هذه الدول "غير الاستراتيجية" موحياً بأجواء النزعة الإنسانية نحو الدول الفقيرة. لكن هذه الدول تحديداً -بنين وتنزانيا وغانا- ترتبط بمعنى الاستقرار الذي تنشد السياسة الأميركية الحديث عن أثر المساعدات الأميركية فيها، وأن زعاماتها التي ترأست الاتحاد الأفريقي (غانا) أو التي ترأسه هذه الدورة (تنزانيا) تعتبر دعاية غير مباشرة لجدوى هذه المساعدات، كما أن غانا شكلت مطمحاً أميركياً لتركيز المعونات العسكرية المرتبطة بالمعونات الاقتصادية، وفق المنهج الجديد في السياسة الأميركية. وقد سبقتها في ذلك رواندا التي زارها الرئيس أيضاً، والتي تعتبر "شرطياً" أميركياً للأمان في منطقة البحيرات والصومال ودارفور، وتشكل قواتها العسكرية حوالى ثلث قوات حفظ السلام المنتشرة في هذه الدول. ولم يكد الرئيس بوش يعلن عن حسن نواياه تجاه الدول الصديقة، مع أبسط التلميحات عن القيادة العسكرية، التي قد تستقر فيها القيادة الأفريقية، حتى جاء الرد قوياً من غانا نفسها، مظاهرات شبابية وتصريحات من القوى المعارضة من جهة، وخطاب قوي من الرئيس الغاني"كوفور" يعتبر رسالة أفريقية متكاملة ضد رغبة الرئيس الأميركي في هذا الاتجاه، حيث أكد الرئيس الغاني على "أن بلاده في ما يخص أفريقيا لن تُسلم بما يُفرض عليها من أي دولة قوية، ولكنها ستتعاون فيما يتعلق بالقيم المشتركة، لأن الصين مثلاً لا تأتي مثل السيد الاستعماري، وتدع أفريقيا تشتري ما تريده منها، بمعدل اقتصادي، وفي هذا الجو العولمي لابد أن تساعد أميركا في التنمية...". وقد لفت نظري رد الرئيس بوش على هذه الرسالة الحادة نسبياً، وفي نفس الموقع، عندما أعلن تقديره للرئيس الغاني لاستفادة بلاده من أموال دافع الضرائب الأميركي! ولعل مثل هذه المواقف المتكررة بدرجة أو أخرى في أنحاء أفريقيا حول "مشروع القيادة العسكرية لأفريقيا (أفريكوم)"، هو الذي أحاط زيارة الرئيس بوش للقارة، وجعل التحليلات تتعمق صادرة من جنوب أفريقيا ونيجيريا وغيرهما ممن كان يأمل الأميركيون تعميق سياستهم فيها، لتقول إن برامج التنمية الأميركية كلها ترتبط الآن بالأهداف العسكرية، وتأتي رسمياً عبر الإدارة العسكرية الأميركية بأكثر مما هي عبر برنامج التنمية الأميركي، أو وزارة الخارجية والتجارة...إلخ. وترتبط عسكرة المساعدات هذه ببرامج محاربة الإرهاب على أرض القارة، مما يجلب في حد ذاته عمليات الإرهاب نفسها ضد استقرار الدول المضيفة. في هذه الأجواء أيضاً، اتجه النقد إلى تأخر مساعدات الولايات المتحدة لقوات حفظ السلام، بل وللأمم المتحدة نفسها، وقد يكون ذلك مقدمة لجعل القوات الأميركية بديلاً مباشراً لقوات حفظ السلام المقترحة من هيئات الأمم المتحدة (والإشارة هنا كانت لدارفور) ولكن الرئيس بوش، سارع بنفي أي رغبة للولايات المتحدة في إرسال قوات أميركية، وأعلن بسرعة مساعدته لقوات حفظ السلام بدارفور بحوالى مائة مليون دولار. ورغم عدم زيارة بوش لدول"المعاناة" أو مناطق التوتر، مثل كينيا أو إثيوبيا، وهى من الدول الصديقة للولايات المتحدة، إلا أنه سارع بمواجهة الحملة على الزيارة من خلال المواقف في هذه الدول، مرة بإرسال وزيرة خارجيته إلى كينيا لدعم جهود "عنان"، بل ودعم الطرفين المتصارعين المعروفين بولائهما معا للولايات المتحدة، ودعم استقرار كينيا الفعلي، وهي أهم مواقع الاستثمارات الرأسمالية في هذه المنطقة، وترك بوش لإثيوبيا الاستمرار في عملية "تهدئة" الصومال دون تعليق منه. شعرت وأنا أتابع وقائع زيارة الرئيس الأميركي، أننا نعيش أجواء جديدة في القارة الأفريقية يلفت النظر أنها جاءت مع زيارة الرئيس الأميركي تحديداً، وها نحن نراها تتصاعد: أولاً: أجواء الرفض الأفريقي لفكرة القواعد العسكرية، أو التحالفات العسكرية بنغمة تذكرنا بفترة مبكرة من أجواء التحرر الوطني وسياسة الحرب الباردة وقتها من قبل الدول الكبرى ورفض الدول الصغيرة لها. وقد يكون ظهور ذلك من على أرض "غانا" (بلد نكروما الذي لم يشأ الرئيس بوش زيارة نصبه التذكاري مثل رؤساء آخرين) وكذا من تنزانيا أو أرض بنين، بل وقد كانت قراءتي للتحليلات التي استنكرت ربط مساعدات التنمية بالإدارة العسكرية بحجة التدريب والأمن والتعاون ضد الإرهاب، مما يبعث روح المقاومة الجديدة. ثانياً: رفض اعتبار الاقتراب من الصين أو التعامل الواسع معها جزءاً من حرب باردة جديدة أو موقفاً يتطلب التبرير أو المقارنة. وقد حرص بوش نفسه على إنكار ربطه للأمور بهذه الطريقة، أي أن الطرف الأفريقي والأميركي على السواء يدركان بعد الصراع المحتمل، وإن كانت شديدة القلق من التوسع الصيني السريع في هذا الجانب الاقتصادي الذي يتحول تدريجياً إلى السياسة بالضرورة مثل حالة الموقف الصيني من قضية دارفور، ومعنى ذلك أن الحرب الباردة - بشكلها القديم - مؤجلة حتى إشعار آخر.