يحمل استقلال كوسوفو دلالاتٍ وأبعاداً عبر استشراف الشؤون الإنسانية والجغرافية التي تكوِّن رابطَ التجمُّع والهوية والمكان في ظل العولمة. فكوسوفو التي عانت الكثير تخرجُ اليوم كدولة بمساندة غربية قوية برعاية واشنطن، وما زالت الدول تعترف بها، وقد تدخل الأمم المتحدة. عشية إعلان الاستقلال خرج أهل كوسوفو رافعين عَلَم الولايات المتحدة وراية "الناتو" عرفاناً لهما بدورهما وتدخلهما من أجلهم في 1999 بمقتضى مبدأ التدخل الإنساني لمنع حرب الإبادة العرقية. وغدت كوسوفو الآن دولةً ذات أغلبية عظمى مسلمة، وهي بذلك أول دولة مسلمة في أوروبا (أما البوسنة فمسلموها يشكلون 43.47 بالمئة حسب إحصاء 1991). ولهذا دلالاتُه، أولها أنه يُقوِّض في جزء بسيط، ولكنه مهم للغاية، مقولةَ صِدام الحضارات لأن الاعترافات الأولى جاءت من دول غربية، وإن كانت بينها دول إسلامية كتركيا، كما أنه لا توجد دولة عربية تعارض الاستقلال. وهذه الدولة الحديثة الاستقلال ستقرِّب بين الشرق والغرب من خلال السموِّ عن مختلف النزعات، فتعطي هذا الأمر زخماً في أوروبا، وهو ما سينعكس على المسلمين كأقليات في دول أوروبية أو غربية. كما أن انضمام كوسوفو إلى الاتحاد الأوروبي سيقوِّض مقولَة أن الاتحاد الأوروبي نادٍ مسيحي، وبهذا فإن كوسوفو ستقلِّص المسافاتِ بين الاتحاد الأوروبي وانضمام تركيا التي ستكون إذّاك جسراً مقرِّباً بين الغرب والشرق، بين شرقيٍّ مستغرب مشرئب إلى ذُرى الغرب من فكر ونمط حياة وبين غربيٍّ مستشرِق متطلِع إلى شجرة الشرق التي تُغري بغرائبيتها. لقد انهار جدار الأنظمة الشمولية على وقع معاناة وأحداث جسام عنوانُها الهويات والنزعات العرقية، وليس خروج كوسوفو إلا استقلالاً مستحَقاً، ذلك أن الشخصيات التي كانت تؤمن بالأنظمة الشمولية، هم أول من اتجه من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين المتطرف والمتعصب للعرق وللدين ولأحداث تاريخية، ومنهم السفاح ميلوسيفيتش، أليس هؤلاء هم الذين يحفظون مقولة إن الأديان أفيون الشعوب أي ما يجعل العالم في صراع، ولدينا في شرقنا مثال في شخصية صدام حسين، الذي لم يستطع ضم العراق في وطنية جامعة، فخرجت المذهبية والطائفية والقومية الكردية وتولَّد عن حطام النظام الشمولي العراقي البائد إقليمُ كردستان ذو الحكم الذاتي وتوجهٌ إلى النظام الفيدرالي. وتقف موسكو وواشنطن على طرفي نقيض، فَهُما في خلاف بين معارض للاستقلال ومؤيد له، فموسكو وعبر علاقاتها مع بلجراد التي تعبر عنها الكنيسة الأرثوذكسية وبعض الأطروحات ذات النزعة الشمولية، وبطبيعة الحال المصالح المشتركة، تُعارضُ الاستقلال بشدة، وهي التي عانت من الانهيار الذي حل بالاتحاد السوفييتي كما أن بها معضلةَ الشيشان التي تحاول حلها بشيء من المرونة حيناً وبالقوة أحياناً. ولكن من المستبعد أن تَستخدم موسكو وبكين "الفيتو" للوقوف في وجه كوسوفو داخل الأمم المتحدة، وذلك من منطلق مصالح واستراتيجيات تجمعها مع دول عربية وإسلامية، فموسكو تستطيع أن تقول لبلجراد والصرب أَنتم وجرائمُكم العرقية من جعلَ كوسوفو دولة مستقلة. وإذا ما اُستخدِم "الفيتو"، فإن موسكو وبكين ستخسران الكثير في علاقاتها مع الشرق ودولهِ المهمة التي ترتبط بهما وترغب في مزيد من الاعتماد المتبادل معهما. والجدير بالذكر أن زيارة ولي العهد السعودي إلى موسكو الأخيرة أعطت الإشارة بتطوير العلاقات بين البلدين، في حين حرصت موسكو على وجود ممثل إقليم الشيشان بياناً لحسن النيَّة لما لهذه القضية من أهمية لدى السعودية والعالم الإسلامي. وإذا كانت هذه بعضاً من أهم الدلالات، فإن هناك أبعاداً أخرى عبر استشراف المستقبل في مرآة كوسوفو، فمدريد التي رفضت الاعتراف بها كانت وما زالت تتوجس خيفة من إقليم "الباسك"، المتقاطع في أراض إسبانية وفرنسية، والذي يطالب بالكثير للتعبير عن هويته وثقافته بعيداً عن النظام الإسباني. ولكن إذا كان من الممكن حل مشكلة "الباسك" بمزيج من الاستقلالية ضمن النظام الإسباني، فإنه يُخشى أن يكون ذلك محفِّزاً لغيره من الأقاليم. والأمر لا يتعلق بإسبانيا فقط، بل بدول عديدة تشهد بروز هويات ونزعات عرقية، وهو ما أصبح واضحاً في ظل المناخ الاقتصادي والتجاري والسياسي والإنساني والثقافي والقانوني الذي يرسم في مجموعة أحوال ما يسمى بالعولمة. وحتى الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي تأثر باستقلال كوسوفو، فالسلطة الفلسطينية اكتشفت أخيراً عبر أحد أهم أعضاء لجنة التفاوض مع إسرائيل بأن الفشل في المفاوضات قد يقود إلى الاستقلال الفلسطيني من طرف واحد في أراضي ما قبل "نكسة 67" رغم أن هذه الأطروحة رفضها أبو مازن، وبطبيعة الحال، فإن كوسوفو حصلت على دعم غربي قوي للاستقلال بعكس فلسطين. ولكن لماذا تبرز الهويات خارج الدولة أو داخلها في ظل العولمة؟ لا شك أن انهيار الأنظمة الشمولية وانتشار الأنظمة الرأسمالية تولَّدت عنه حالات معينة من الديمقراطيات الداخلية لتتناسب مع المنظومة الرأسمالية الحرة، كما أن العولمة مكّنت الكثير من تكوين قدرات مالية وتجارية ومراكز ثقافية وإنشاء قنوات تلفزيونية عزَّزت مختلف الهويات، سواء التي تطالب بما هو من حقوقها الداخلية في أنظمة دولها، وهويات منفصلة وأخرى شبه منفصلة. ومما لا شك فيه أن ذلك يعود إلى أن الأنظمة السلطوية والديكتاتورية، وظروف نشأة وتكوين بعض الدول لم يعطِ الهويات حقَّها في الأنظمة أو في كيان مستقل أو حتى شبه مستقل. أجل، رغم كل الاعتقادات المضادة والموجَّهة للعولمة بأنها منظور غربي بحت، فإن التجارة والاقتصاد والصناعة والتطور تحمل جوانب أخرى إيجابية مثل حقوق الإنسان واحترام الحضارات والثقافات الأخرى، إلى جانب تقلُّص دور الدولة لصالح الشعب بكل مكوناته. وهكذا فإن الهويات تتحرك في ظل العولمة، أي أن الجغرافيا تتحرك وتتغير، مما يعني سقوط مقولةِ نهايةِ التاريخ بسيادة النظام الرأسمالي الليبرالي الغربي، إذ كيف للقاعدة أن تتحرك بينما يبقى من عليها ثابتا على منظومة سياسية واقتصادية واجتماعية واحدة، فتتوقَّف في ثبوته هذا الأحداثُ البشرية، وبتوقُّف هذه الأحداث ينتهي التاريخ! وهذا الجانب المهمُّ يوضِّح لنا أن الدول في تزايد مستمر وأن الهويات والشركات والمال والتجارة والتحالفات مع استراتيجيات دول على حساب دول ومصالح أخرى تؤكِّد أنه كلَّما ضعُفت سيطرة الدولة عبَّرت مكوناتُ الدولة، من هويات اجتماعية وشركات وأموال، عن شكل النظام المسيطر على الدولة داخلياً والمحرك لسياساتها الخارجية، وربما تولَّدت عن بروز مكوناتِ الدولةِ حالات من الانقسام والانفصال والصدام مع نظام هذه الدولة. وفي حالات أخرى قد نشهد دولاً تزيح الأسوارَ عن بروز الهويات بشكل ديمقراطي بمحوِ مخلَّفات التاريخ الدموية التي لا تذَكِّر إلا بجرائمَ فظيعة تحفِّز على الصدام وتخلق فجوة بين الهويات والأعراق المختلفة وبين النظام السياسي، ومثال ذلك اعتذار رئيس الوزراء الاسترالي عن جرائم الاستعمار في حق السكان الأصليين. غير أنه كما أن هناك سبلا ديمقراطية للسيطرة هناك أيضاً احتمال لعودة الأنظمة السلطوية لتسيطر على مكونات ومقومات دولها من اقتصاد وبشر. لقد كانت الحرب الباردة صراعاً بين نظامين شيوعي/اشتراكي ورأسمالي/ليبرالي، كان كلاهما في النهاية يدَّعي العدالة للبشرية ويسعى إلى حصار خصمه بمناطق نفوذ إيديولوجية. أما اليوم، فإن الصراع يشير إلى بروز حدود جديدة قائمة على الهويات والنزعة العرقية والثقافية والدينية، كما لو أنه لا حدود لرسم وإعادة رسم حدود الدول.